خواطر في الدعوة
محمد العبدة
ليس غريباً أن يلجأ العلمانيون في معرض التشغيب على الإسلاميين إلى
التهمة المكررة المعتادة (أنتم تريدون الحكم، وتستخدمون الدين وسيلة لهذا الهدف) ،
وليس غريباً أن يعيدوا الكلام البارد الغث عن (الإسلام السياسي) و (الأصولية) مما
يجترُّونه وينقلونه عن الكتابات الغربية، ويظنون أنهم بهذا التهويش الإعلامي إنما
يضعون الإسلاميين في الزاوية الحرجة.
إن هذه التهمة ليست جديدة على مسامع الدعاة إلى الله، فإن للمعاصرين من
العلمانيين سلفاً في ذلك [وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ]
[الأعراف: 202] ، إنهم ملأ فرعون حيث يذكر القرآن هذا الحوار بينهم وبين موسى (عليه السلام) [قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ] [يونس: 77-78] ، قال في تفسير المنار:
(هذا استفهام وتوريط وتقرير، فحواه: أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا
عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني، لنتبع دينك، وتكون لك
ولأخيك كبرياء الرئاسة الدينية وما يتبعها من كبرياء العظمة والملك الدنيوية في
أرض مصر كلها، يعنون: أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا وإن لم تعترف به
اعترافاً) [1] .
أليست هذه مقولة علمانيينا حذو القذة بالقذة؟ ترى ما الذي أعطى لهؤلاء الحق
في الحكم ومنعه عن الإسلاميين؟ ! ولماذا السياسة حلال لهم وحرام على غيرهم؟! وما هي مؤهلاتهم لسياسة الخلق لما فيه مصلحتهم؟ وماذا قدموا لهذه الأمة طوال
عقود من السنين تربعوا فيها على سدة الحكم قي أكثر أنحاء العالم الإسلامي، إلا أن
تركوا الديار قاعاً صفصفاً، فقد ضعف العلم وانحسرت التنمية، وظهرت طبقات
طفيلية امتصت خيرات المجتمع، وقننت الرشوة والظلم.. وقبل كل هذا فقدت
الأمة أثمن ما تملك: هويتها وانتماءها.
ما أكثر جرأة هؤلاء الذين ملؤوا الدنيا جعجعة بالشعارات الوطنية، هؤلاء
الجاحدون لثقافتهم، المتنكرون لأمتهم، فإن علمانيي أوروبا لم يتنكروا لماضيهم
التاريخي كما فعل هؤلاء، ولم يخجلوا من انتمائهم الحضاري السابق كما يخجل
هؤلاء، ولقد أعلن أخيراً عن فوز الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية
وخاصة الجناح المحافظ المتدين، والذي يقود هذا التيار أستاذ جامعي تذاع
محاضراته ذات الطابع المتدين في جميع الكليات، ولم نسمع أن هناك من يقيم
الدنيا ولا يقعدها، ويدعو بالويل والثبور لانتصار هذا الجناح أو لانتصار
النصرانية (السياسية) ، فلا أدري أي صنف من البشر علمانيونا هؤلاء؟ ! !
إن هذه الأرض لله، والله لا يحب الفساد والظلم [لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]
[البقرة: 124] والمسلم مأمور بالعدل والإنصاف والرحمة للخلق، وقد قام بمهمة
الحكم وسياسة الناس لما فيه مصلحتهم في معاشهم ومعادهم سيد الخلق محمد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وقام بها بعده أفضل الناس بعد الأنبياء أمثال أبى بكر
وعمر، ولم يستنكفوا عنها، ولم يزهدوا فيها، ولم يفصلوا بين الدين والحياة،
وبين الدين والسياسة، وامتلأت الأرض عدلاً ورحمة وعمراناً.
واذا جادل هؤلاء بما يقع من أخطاء في جهات إسلامية، فما وقع منهم
أضعاف هذا، ويبقى المسلمون أكثر رحمة وعدلاً وهم المستقلون عن الارتباط
بأعداء الأمة.