مقال
نظرات في:
أصول التجديد الإسلامي
خميس بن عاشور
هل العقيدة والشريعة اللتان توجدان اليوم بين أيدي المسلمين هما العقيدة
والشريعة اللتان كانتا أيام الصحابة والسلف الصالح؟ .. أم أن تشويهات أصابت
الإسلام الأول الإسلام الصحيح إسلام الفطرة والوضوح والواقعية، لا شك أن إسلام
اليوم في كثير من البلدان ليس هو الإسلام الصحيح كما ورد به الوحيان، ومادمنا
نسلم بذلك فإن ضرورة التجديد تبدو ملحة للخروج من الأزمة، أزمة البعد عن واقع
الإسلام النقي، ومع اعتقاد كثير من المسلمين بأن الإسلام لا يزال بخير وعافية في
عقيدته وشريعته فإنه يتحتم أن نبين ما إذا كان ذلك صحيحاً أم أنه لا يعدو كونه
وهماً كبيراً، وتراكمات فكرية للزمان والمكان على الضمير الجمعي المسلم سيما
وقد استحال الإسلام إلى تقاليد وعادات مستحكمة خالية من بذور الإبداع التي تميز
ذلك التفاعل البناء بين الإسلام النقي ونفوس المسلمين المخلصين، وإلا فكيف نفسر
تلك السلبية التي ميزت المسلم فيما بعد القرون المفضلة، إن هناك خَللاً دون ريب، وإن هناك انحرافاً عن الخط الذي رسمه الوحي الإلهي للمسلم كي يسلكه بكل
عزيمة وثقة، ومهمة التجديد في هذا المجال هي تحديد علل ذلك الانحراف،
ووضع الأساليب والمناهج التي بإمكانها أن تضع قطار الإسلام مرة أخرى على
الخط ويلزم من ذلك أن توفر هذه الأساليب التجديدية نفس الظروف والإمكانيات
النفسية الروحية التي وجدها المسلم عندما كان الوحي يتنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم.
إن مهمة التجديد إذاً هي إبعاد كل العناصر والجزئيات الدخيلة على عملية
تفاعل الوحي مع النفوس، هذا التفاعل هو الذي من شأنه أن يحيي تلك الإيجابية
الإيمانية التي أخرجت من بين من أخرجت جيل الصحابة وجيل التابعين الذين مثلوا
الإسلام خير تمثيل، وأصبحوا بذلك النموذج السامي لثمرة تفاعل الوحي الإلهي
بالنفوس، وبعد ذلك قد تلوح في الأفق إمكانية مطابقة الواقع الفكري والعملي الآني
مع الواقع الفكري والعملي للفترة النموذجية للإسلام، فترة السلف الصالح، ثم
نحاول إزالة الشوائب والزوائد التي تشوه عملية المطابقة، وبقدر الجهد والإخلاص
الذي نبذله في هذه العملية بقدر ما تكون الصورة الحاصلة أوضح وأقرب إلى
النموذج المنشود وإن كان ليس بالضرورة أن نحصل على نفس الحجم ونفس الكثافة
بل قد نحصل على أقل من ذلك أو أكثر بحسب توافر الشروط اللازمة لإحداث
عملية التفاعل بين الوحي الإلهي البعيد عن كل شائبة بشرية وبين نفوس المسمين
الذين يملكون الشروط النفسية المطلوبة منهم، كذلك حسبنا أن نعمل على التسوية
والمقاربة ما أمكن إن هذه العملية التطابقية تبدو عملية هائلة تتطلب الإرادة والعزيمة
التي لا تعرف الكلل ولا الخور.
إن نظرة فاحصة إلى منهج التلقي أثناء فترة التنزيل، ثم فترة أولئك الذين
عايشوا التنزيل تجعلنا نجزم بعد الاطلاع على ما أنتجه المسلمون في ميدان أصول
التشريع والاعتقاد بأن هناك بوناً شاسعاً بين هذين المنهجين (منهج السلف ومنهج
الخلف) وبغض النظر عما حدث بسبب الضرورات الزمانية والمكانية فإن أصول
الخلف الجديدة لا شك أنها تحمل الكثير من بصمات الوضعية البشرية التي من
شأنها تكثيف الحجب التي تقف دون استشفاف المعنى الحقيقي للإسلام.
إن دراسة منهاج السلف في الاعتقاد والتشريع تبين لنا بكل وضوح أن مهمة
هذه المنهاج هي البحث عن حكم الله في القضايا المطروحة من خلال تتبع نصوص
الوحي وقد فرض هذا الاتباع للنصوص شروطاً تدور جلها حول إثبات النص سنداً
ومتناً ومعنى، حتى إذا اتفقت الأسانيد والمعاني حول فهم معين أخذوا به ولم
ينظروا إلى غيره، وهذا ما حدث في الأغلب، إن لم نقل في كل القضايا العقدية،
أما القضايا التشريعية (أي المتعلقة بالأحكام العملية) فإنهم كانوا رغم مفاهيمهم
المتعددة لبعضها فإن خلافاتهم كانت محدودة ومحصورة جداً، وسبب ذلك اتحادهم
في منهج الفهم والإثبات، ولقد اقتضت العصور اللاحقة لهؤلاء السلف شروطاً
فرضتها حيثيات الزمان والمكان، وبالتالي فإننا نستطيع أن ندخل عاملاً مهماً في
تجديد الإسلام عقيدة وشريعة وهو عامل «علم الإسناد» الذي هو من الدين ولولا
الإسناد لقال من شاء ما شاء، والغرض من ذلك هو إعادة الاعتبار إلى النص
الصحيح الذي هو غاية المشرع بلا ريب سواء أكان ذلك في الأحكام العملية أو
الأحكام الاعتقادية، بدون تفريق بين العقيدة والشريعة لا كما فعل ذلك منهج الخلف، وبالإضافة إلى ذلك فإننا نستطيع أن ندخل عاملاً آخر لا يقل أهمية عن الأول
وهو اللغة العربية، فالعمل على إعادة الاعتبار إلى اللغة التي نزلت بها كل تلك
النصوص هو ذلك العامل ذو الرقم المهم في هذه المعادلة، وبالإضافة إلى ركن
الاجتهاد الفقهي العملي فإننا نستطيع أن نضع منهجاً لا يعتبر جديداً بقدر ما يعتبر
عملية تنسيق وقراءة لما يوجد في مبادئ الفكر الإسلامي الأصولي بالدرجة الأولى،
وذلك من خلال مراجعة مؤلفات المسلمين في بيان أصول التشريع وأصول الاعتقاد، ويمكن صياغة ذلك كما يلي:
أولاً: الرجوع إلى النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع اعتبار كل ما
وضعه المسلمون في محاولاتهم لفهم النصوص، وذلك ما يقودنا بالتالي إلى مراجعة
أمهات كتب أصول الفقه وأصول العقيدة ليسر منهاجها، ثم محاولة نقدها ليؤخذ منها
ما يستحق الأخذ في عملية وضع منهج لتجديد الإسلام وإرجاع الحيوية إليه في
نفوس المسلمين.
ثانياً: الإسناد في هذه العملية يعتبر وسيلة لا مناص منها ومهمته هي
الوصول إلى متن النص الصحيح، كما جاء به الوحي الإلهي، وذلك قبل البدء في
عملية فهمه وفق مقتضيات خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين فالإسناد إذا هو
تلك الضرورة التي فرضها البعد الزماني عن مصدر النص وهذا يقود بدوره إلى
دراسة منهجية تتعلق بعلم الإسناد ومدى إمكانيات توظيفه لكي يؤدي مهمته الأساسية
في عملية تجديد الإسلام.
ثالثاً: اللغة العربية وإن كانت أداة ووسيلة هي في نفس الوقت غاية لأن
نزول الوحي بها يجعلها ذات أهمية بالغة، وهذا ما يقودنا إلى محاولة وضع خطة
سليمة لدراسة اللغة العربية فيما بعد انقضاء عصور الاحتجاج حيث أصحاب اللغة
الأصليين السلفيين، وذلك ما من شأنه أن يوفر للمسلمين من العرب وغير العرب
الشرط المباشر لاستقبال خطاب الشارع المنزل بلسان عربي مبين، وهنا يتحتم
وضع المناهج المفصلة لنشر اللغة وتدريسها بكيفية تقرب المسلم من النص وهو
سليم من التشوهات التي قد تصيبه بسبب عوامل الزمان والمكان.
فتجديد اللغة هو أيضاً ركن من أركان تجديد الإسلام نفسه، وذلك بالتركيز
على النص العربي (نثراً وشعراً) قبل التركيز على قواعد اللغة من نحو وصرف
مثلما هو معمول به اليوم ومنذ قرون طويلة من تاريخ الإسلام حيث طغت الوسيلة
(قواعد اللغة) على الغاية (النص العربي) .
رابعاً: الاجتهاد، والمقصود به بذل الجهد في معرفة الحكم العملي لا
الاعتقادي، وذلك ما من شأنه أن يحافظ على وحدة العقيدة عند المسلمين، ووضع
حد لعمليات التمحل والتعسف التي تعرضت لها من خلال القول بجواز الاجتهاد في
العقيدة الذي تزعمت القول به مدرسة العقلانية قديماً وحديثاً، أما الاجتهاد في معرفة
الأحكام العملية فهو العملية الواجبة من أجل أن يبقى الإسلام صالحاً لكل زمان
ومكان كما أراده الله عز وجل، ولكن إذا نحن تأملنا في الخلافات الحاصلة بين
المسلمين نجد أن أغلبها نابع من المبالغة في توسيع مجال النظر البشري في مسائل
الإيمان والحقائق الغيبية أي توسيع مجال الاجتهاد على غير الوجهة التي أرادها
الشارع، أي علي الطريقة المعبرة عن الآراء أو بعبارة أخرى عن الميولات
والأهواء النفسية في بعض الأحيان أو حتى السياسية في أحيان أخرى، وهذا ما
يقودنا في هذا المضمار بدافع المنهج العلمي إلى دراسة الاجتهاد دراسة أصولية
تهدف إلى وضع تعريف له مقبول شرعاً، وتحديد مجاله، ووسائله وأساليبه،
وبالتالي محاولة فرز تلك المعضلات الفكرية التي نشأت بسبب تداخل مجالات
المتحول في مجال الثابت داخل الإسلام عقيدة وشريعة، وتقودنا هذه الدراسة مرة
أخرى إلى مبادئ الفكر الأصولي الإسلامي حيث ستؤخذ كل الأصول بالاعتبار بدءاً
بالقياس وانتهاءً بالأصول الأقل أهمية كالعرف والاستصحاب مع التركيز على هذا
الأخير الذي قد يكون أصلاً له أهمية أكبر مما أعطاه الأصوليون في كتبهم ومؤلفاتهم، وهذه الأهمية تكمن في علاقته «الرياضية» مع القياس، لأننا نجد المتوسعين
في العمل بالقياس والرأي يقللون من أهمية الاستصحاب والذين يضيقون في العمل
بالقياس والرأي أو ينكرونهما يتوسعون في العمل بالاستصحاب كالحنابلة والظاهرية، وهذا ما يجعله ينافس أصل القياس ويحد من عمله ليصبح بديلاً في الإجابة عن
الوقائع الطارئة، وكما سبق فإن هذا المنهج قد لا يعتبر جديداً بقدر ما يعتبر عملية
إعادة تشكيل أو صياغة للتراث الأصولي الإسلامي الذي لم يترك لمستزيد مجالاً
كبيراً للزيادة، وإنما حسبنا أن نستشف من هذا التراث ما به نستعيد مجدنا في مجال
التقنين والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة، والله الموفق..