مجله البيان (صفحة 1804)

النفاق: حقيقته، انواعه، صوره (1)

دراسات شرعية

النفاق

حقيقته، أنواعه، صوره

-1-

د. محمد عبد الله الوهيبي

تمهيد:

كثر الحديث في القرآن الكريم عن النفاق والمنافقين، صفاتهم وأخلاقهم وأنهم

شر أنواع الكفار، وأن مصيرهم في الدرك الأسفل من النار، ومن ثم تحذير

المؤمنين منهم لأن «بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين، ولهذا قال

تعالى في حقهم: [هم العدو فاحذرهم] [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضي

الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو

للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا

يُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا

بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم

بها، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف

دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع

أولئك ساعة أو أياماً ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار

والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر،

ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر» [1] .

ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (نبه الله سبحانه وتعالى على صفات

المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم

الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات

الكبار أن يظن بأهل الفجور خيراً) [2] ، وسيكون حديثنا في هذا المقال عن تعريف

النفاق، ثم نذكر أنواعه، ونركز الحديث على النفاق المخرج من الملة باعتباره

المقصود الأساس من بحثنا.

تعريف النفاق:

اختلف علماء اللغة في أصل النفاق، فقيل إن ذلك نسبة إلى النفق وهو

السرب في الأرض لأن المنافق يستر كفره ويغيبه، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر

فيه.

وقيل: سمي به من نافقاء اليربوع، فإن اليربوع له جحر يقال له: النافقاء،

وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء، كذا

المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه، وقيل: نسبة إلى نافقاء

اليربوع أيضاً، لكن من وجه آخر وهو إظهاره غير ما يضمر ذلك: أنه يخرق

الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا

المخرج، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض،

وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر [3] .

ولعل النسبة إلى نافقاء اليربوع أرجح من النسبة إلى النفق (لأن النفق ليس

فيه إظهار شيء، وإبطان شيء آخر، كما هو الحال في النفاق، وكونه مأخوذاً من

النافقاء باعتبار أن المنافق يظهر خلاف ما يبطن، أقرب من كونه مأخوذاً منه

باعتبار أنه يخرج من غير الوجه الذي دخل فيه، لأن الذي يتحقق فيه الشبه الكامل

بين النافقاء والنفاق هو إظهار شيء وإخفاء شيء آخر، إضافة إلى أن المنافق لم

يدخل في الإسلام دخولاً حقيقياً حتى يخرج منه) [4] .

أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو إظهار القول باللسان أو الفعل بخلاف

ما في القلب من القول والاعتقاد [5] ، أو هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وهو

اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة

معروفاً كما سبق [6] .

وأساس النفاق الذي بني عليه: أن المنافق لابد وأن تختلف سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: [ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون] [البقرة: 10] ، وقال: [والله

يشهد إن المنافقين لكاذبون] [المنافقون: 1] وأمثال هذا كثير « [7] .

إذاً: أخص وأهم ما يميز المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن، وبين

الدعوى والحقيقة كما قال تعالى: [ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر

وما هم بمؤمنين] [البقرة: 8] ، قال الإمام الطبري رحمه الله: (أجمع جميع أهل

التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة

صفتهم) [8] .

وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق، قال شيخ الإسلام رحمه

الله:» ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ (الزنديق) وشاعت في لسان

الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته؟ والمقصود هنا: أن (الزنديق)

في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي -صلى الله عليه

وسلم-، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أأبطن ديناً من الأديان: كدين

اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال

الصالحة ... « [9] ، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان مراتب المكلفين في

الدار الآخرة وطبقاتهم:) : (الطبقة الخامسة عشر) : طبقة الزنادقة، وهم قوم

أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، هؤلاء هم

المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار» [10] .

1- النفاق الأصغر:

الأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو وأبي

هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، في ذكر آية المنافق، فعن أبي

هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا إئتمن خان» [11] .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه

خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر،

وإذا خاصم فجر» [12] ، قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث:

(هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في

المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه

ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن

أخوة يوسف -صلى الله عليه وسلم-جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف

والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال ولكن

اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار،

أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال

ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في

صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه

وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يُرد

النبي -صلى الله عليه وسلم-بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (كان منافقاً خالصاً) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه، فهذا هو المختار في معنى الحديث ... ) [13] .

وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار

للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أن

من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق) [14] .

وقال أي الخطابي: «ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرار

الفعل» [15] ، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال:) والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من (حدّث) يدل على العموم، أي إذا حدّث في كل شيء كذب فيه، أو يصير قاصراً، أي إذا وجد ماهية الحديث كذب، وقيل محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً « [16] ، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما شرح هذه الخصال:» وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن ... « [17] .

ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين [18] ، قال

النبي صلى الله عليه وسلم:» من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على

شعبة من نفاق « [19] ، ومن ذلك ما رواه البخاري في» باب: ما يكره من ثناء

السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك «:» قال أناس لعبد الله بن عمر: إنا ندخل

على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنّا نعدها

نفاقاً « [20] .

وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة على أنفسهم، يقول ابن رجب [21] :

(ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية

خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند

سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك

منه نفاقاً، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي: أنه مر بأبي بكر وهو يبكي،

فقال: مالك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والضيعة

فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-، فقال:» مالك يا حنظلة؟ «قال: نافق حنظلة يا رسول الله وذكر

له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:» لو تدومون

على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي

طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة « [22] .

ومما ورد في هذا المعنى أي خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة:» أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق

على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل « [23] ، يقول

الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر:» والصحابة الذين أدركهم ابن أبي

مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة

بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة

أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا

يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع وذلك لأن

المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من

خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى

رضي الله عنهم « [24] .

وخلاصة القول في النفاق الأصغر، أنه نوع من الاختلاف بين السريرة

والعلانية مما هو دون الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل وكإظهار

مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بغضه والإساءة إليه، كالخصال الواردة في

حديث شعب النفاق ونحو ذلك، فعلى المسلم الحذر من الوقوع في شيء من ذلك.

2- النفاق الأكبر:

سبقت الإشارة إلى تعريفه عند الكلام عن النوع الأول، ويمكن اختصار

تعريفه بتعريف ذكره الحافظ ابن رجب حيث قال رحمه الله:) النفاق الأكبر، وهو

أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر، ويبطن ما

يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل

من النار» [25] ، ومن الآيات في تكفيرهم ومصيرهم في الآخرة قوله تعالى:

[ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين] [البقرة: 8] ، وقوله ...

عز وجل: [بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ] [النساء: 138] ، وقوله سبحانه: [إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار] [النساء: 145] ، وقوله تعالى:

[وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها] [التوبة: 68] ، وقوله

تعالى: [يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس

المصير، يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمَوا بما

لم ينالوا] [التوبة: 73، 74] وقوله عن طائفة من المنافقين: [لا تعتذروا قد

كفرتم بعد إيمانكم] [التوبة: 66]

فهذه الآيات تبين لنا أن المنافقين من أسوأ أنواع الكفار، ومصيرهم في

الآخرة في الدرك الأسفل من النار، لأنهم زادوا على كفرهم، الكذب والمراوغة

والخداع للمؤمنين، ولذلك فصل القرآن الحديث حولهم وحول صفاتهم لكي لايقع

المؤمنون في حبائلهم وخداعهم.

وفي الحلقة القادمة سنتحدث إن شاء الله عن بعض صور النفاق الأكبر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015