الافتتاحية
رؤية في الأحداث الأخيرة بالجزائر
(1)
وأخيراً.. وبعد مرور ثلاث سنوات وبضعة أشهر خرج عباسي مدني
وصاحبه علي بلحاج من السجن برؤوس شامخة وهمم عالية، خرجا ليثبتا للناس
جميعاً أن أساليب المكر والقهر والجبروت التي تصب فوق رؤوس الدعاة
والمصلحين لا تزيدهم إلا إقبالاً وثباتاً، ولا تثني من عزائمهم، أو تحبط من
هممهم..! !
لقد أثبتت أحداث الجزائر أنه مهما تشبث أهل الغواية بغوايتهم، وأصروا
على باطلهم، فإن أهل الحق أطول نفساً، وأقوى عزيمة، وأهنأ بالاً..!
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن الديموقراطية التي يرعاها الغرب هي
ديموقراطية الببغاوات الذين يقولون ما لا يفعلون، وحالهم كما قال القائل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت! !
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن دعوات الإصلاح وحركات التغيير لن تنجح إلا
بالصبر واليقين والثبات على الحق، مهما كثرت التضحيات، فالبصبر واليقين
تنال الإمامة في الدين.
ما بال هذه الجماهير التي تعرضت لكل أنواع المسخ وغسيل الدماغ تعود
ثانية إلى رياضها اليانعة الكريمة ولا ترضى بالدنية في دينها..؟ !
ما بال هذه الجماهير التي ذاقت كل أنواع الذل والاستخذاء، تعود ثانية إلى
نداء التوحيد بكل إباء وشمم..؟ !
لقد جربت الأمة كل شعارات التغيير: النفعية.. الاشتراكية.. القومية..
البعثية.. الوطنية.. والنتيجة مزيد من الانحطاط والتخلف والفساد، فلا تخرج
الأمة من مأزق إلا وتعود إلى مأزق آخر أشد منه انحرافاً وتخلفاً، فتتراكم
الإحباطات، والضحية هو الشعب المسكين.!
إن أشد حالات الذل والمهانة أن تضرب العبودية على الشعوب، وتسرق
عقولها، وتصادر هويتها، ولقد عرفت الشعوب أن تلك الهياكل النخرة المهترئة
التي تخبطت في قيادة الأمة قد أفلست، وانكشفت أقنعتها وظهر عوارها وخزيها،
ولم يبقَ إلا أن تعود إلى دينها الحق وتلتف حول أبنائها الخُلص الأبرار الذين
عُفّرَتْ وجوههم بالتراب ذلاً وعبودية لله العظيم وحده لا شريك له.
لقد أثبتت أحداث الجزائر أن الإسلام هو خيار هذه الأمة، فلما رفعت راياته
وحملها رجالها المخلصون، التفت حولهم الجماهير بكل محبة وثقة.
مساكين أولئك الذين يحاربون الإسلام..! !
مساكين أولئك الذين يحاربون الله تعالى ويبارزونه..! !
مساكين أولئك الذين يحاربون خيار الشعب ويناصبونه العداء..! !
(2)
وبخروج الشيخين من السجن انتقل العمل الإسلامي في الجزائر إلى طور
جديد ومفترق حاسم مليء بالمناورات السياسية، عندما بدأت الدعوة إلى الحوار
والجلوس على مائدة المفاوضات، ونحن نثق بصلابة إخواننا وقوتهم في دينهم،
كما نثق بيقظتهم وإدراكهم للألاعيب السياسية بأنفاقها المظلمة وطرقها المتعرجة،
وحبنا لهم يدفعنا إلى تذكيرهم بالنقاط التالية:
أولاً: أن المطالبين بالحوار هم الذين أسكتوا اختيار الشعب، وعطلوا المسار
الانتخابي، ووأدوا الديموقراطية المزعومة التي يتشدقون بها.
ثانياً: أن الحوار لا يعني الضعف والرضوخ والتنازل، ولا يؤدي إلى
الاستهلاك وامتصاص الحماس، بل ينبغي أن يكون دعوة لاستعادة الحقوق وإصلاح
الأوضاع المتدهورة.
ثالثاً: لا يجوز أن تنسينا الأهداف القريبة أهدافنا البعيدة، ولن يتم ذلك إلا
بوضوح الخطط، وتوافر الدراسات، ومعرفة الإمكانات والخيارات المطروحة في
الساحة.
والذي نريد تأكيده أن القضية ليست أن يخرج مدني من السجن أو لا يخرج
مع تقديرنا الشديد له وإنما القضية أن تخرج الأمة بأكملها من ذلك السجن الكبير
الذي يكتم أنفاسها، أن يخرج الشعب من ذلك الحصار الرهيب الذي ضرب عليه،
أن يعيش الناس عيشة الأحرار الكرام لهم عقول يعون بها وآذان يسمعون بها
وعيون يبصرون بها.
رابعاً: لقد كانت قوة الإنقاذ في المرحلة السابقة في تماسكها ووحدة كلمتها
ووضوح أطروحاتها ومبادئها، ولن تكون قوية في هذه المرحلة الحرجة إلا بذلك،
فالحذر الحذر من الاختلاف والفرقة والتنازع، وتطاوعوا ولا تختلفوا، وتناصروا
ولا تتخاذلوا، وقضية الجزائر الكبرى ليست هي الإنقاذ أو حماس أو النهضة أو
الجماعات المسلمة، إنما هي أن نكون أو لا نكون، وإما إسلام أو لا إسلام.
لقد صبر الشعب الجزائري وثبت في هذه المحنة عندما رأى أشياخه وقادته
في مقدمة الصفوف برؤوس شامخة ونفوس أبية كريمة.
لقد صبر الشعب الجزائري وثبت عندما رأى الصدق والقوة في الحق
ووضوح الرؤية، ولكني أحسبه يوصي القيادة بالمحافظة على انتصاراته حتى لا
تسرق ثمرته كما سرقت من قبل لمّا أخرج الاستعمارَ من أرضه.
[والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا] ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه
وسلم.