في دائرة الضوء
الكتاب الإسلامي: وقفات نقدية
ودعوة للارتقاء نحو الأفضل
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
انتشر الكتاب الإسلامي انتشاراً واسعاً، وأصبحت له الصدارة في دور
العرض والنشر ومعارض الكتاب الدولية والمحلية، وسجلت مبيعاته أرقاماً قياسية
منقطعة النظير، وساعد في انتشاره تطور آليات النشر والطباعة تطوراً مذهلاً،
فأصبحت دور النشر تقذف بسيل متدفق من الكتب بألوانها البراقة وعناوينها الجذابة، وأصبح المتابع للجديد يعجز عن الإحاطة بذلك، وبخاصة مع فوضى الكتابة
والنشر، وغياب المؤسسات العلمية التي تنظم ذلك وتحتويه أو تتبنى الكتب
المتميزة بعد دراستها وتقويمها.
وأمام هذا الركام المتتابع من الكتب تضيع الكتابات العلمية الجادة التي يكتبها
أهل القدرة والإتقان، وبخاصة إذا لم يكونوا من أصحاب الأسماء اللامعة المشهورة، ويظهر هذا جلياً مع غياب القارئ الناضج غالباً الذي يملك قدرة نقدية تؤهله
للتمييز بين الغث والسمين، حيث أصبح كثير من القراء كالتائه الغريب لا يدري
أين يتجه..!
وعلى الرغم من العمر الطويل نسبياً للصحوة الإسلامية المعاصرة، إلا أن
القدرة العلمية لكثير من أبنائها لم تنضج بعد، ويظهر ذلك في العقلية الهشة التي
نشاهدها في المنظومة الثقافية السائدة هنا وهناك. مع أنّ أبناء الصحوة مقارنة
بغيرهم أكثر الناس ثقافة واهتماماً بالقراءة وإقبالاً عليها بمختلف تخصصاتها.
وللمادة المكتوبة المعروضة في الساحة تأثير كبير جداً في صنع وتشكيل فكر
القراء، وتقويم هذه المادة وتحليلها ضرورة ملحة تساهم في إثراء المعرفة العلمية
وترشيدها، وفي هذه الورقات سوف أقف وقفات عابرة عند بعض الكتابات
الإسلامية الحديثة، لعلها تساعد في تسديد النقص وتقويم الخطأ.
الوقفة الأولى: في أهداف التأليف:
أولاً: التجديد والإبداع:
تختلف أهداف التأليف من كاتب إلى آخر، ولكن من السمات الظاهرة في
الكتابات الإسلامية غياب الإبداع والتجديد، فالكتابة الأصيلة الجادة التي تقدم إضافة
علمية جديدة قليلة جداً، إذا قورنت بالعدد الكبير الذي تنتجه المطابع، فمعظم
الكتابات تكرار واجترار لا جديد فيها، فالمسألة الواحدة تجد فيها عشرة كتب مثلاً
أو أقل أو أكثر كلها تدور حول أفكار واحدة وتعرض بطرائق متشابهة، وقد لا أبالغ
إذا قلت وباستخدام مفردات وجمل وشواهد واحدة..!
وهذا ناتج في كثير من الأحيان عن عجز بعض الكتاب وافتقادهم لآلية الكتابة
وأدواتها، والإبداع لا يأتي من فراغ، فهو ثمرة لتراكم مجموعة كبيرة من العلوم
والمعارف والخبرات
وكثرة الكتب في الموضوع الواحد لا تدل على أنّهُ أعطى حقه من الدرس أو
أنه بحث بحثاً متكاملاً، بل إنّ ذلك قد يتطلب مزيد بحث وتأصيل، إمّا لأنّ
الكتابات السابقة كلها أو بعضها ضعيفة، أو أن الموضوع واسع ولم تستوعب جميع
أطرافه ومسائله.
ولا يعني هذا أنّ كل كاتب مطالب بأن يأتي بأفكار جديدة دائماً، ولكن إذا لم
تكن الفكرة جديدة فليس أقل من التجديد في أسلوب العرض والمناقشة والتحليل.
قال الإمام النووي في بيان آداب التأليف: «وينبغي أن يكون اعتناؤه من
التصنيف بما لم يُسبق إليه أكثر، والمراد بهذا ألا يكون هناك مصنّف يُغني عن
مصنّفه في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها فليصنّف من جنسه ما يزيد
زيادات يحتفل بها مع ضمّ ما فاته من الأساليب» [1] .
وقال صاحب الأزدي: «لا ينبغي لمصنّّّف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن
غرضين: إمّا أن يخترع معنى، وإمّا أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين
الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرف» [2] .
وقال حاجي خليفة: «ثم إن التأليف على سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل
إلا فيها، وهي: إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء
مغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء
متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه» [3]
وجماع هذه المقاصد التأكيد على ضرورة الإتيان بالجديد، والحرص على
الإبداع والابتكار، والذي ينبغي تأكيده أنّه على الرغم من كثرة الإصدارات وتتابع
المطبوعات الحديثة، إلا أنّ الأصيل النافع هو الذي بقى والزمن كفيل بإماتة الغثاء، قال الله تعالى: [فأما الزبد فيذهب جفاء وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض] (سورة الرعد: الآية 17) .
ويعجبني في هذا السبيل موقفان رائعان:
الموقف الأول: قال المفضل بن محمد بن حرب المدني: «.. ثم إنّ مالكاً
عزم على تصنيف الموطأ، فصنّفه، فعمل من كان في المدينة يومئذ من العلماء
الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شاركك فيه الناس
وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا، فأتي بذلك. فنظر فيه ثم نبذه، وقال:
لتعلمنّ أنّه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله.
قال المفضل: فكأنّما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء منها بعد ذلك
بذكر!» [4] .
الموقف الثاني: قال البويطي لشيخه محمد بن إدريس الشافعي: «إنك تعتني
في تنظيف الكتب وتصنيفها، والناس لا يلتفتون إلى كتبك ولا إلى تصنيفك، فقال: يابني إن هذا هو الحق، والحق لا يضيع» [5]
ثانياً: التنظير الثقافي
بعض الكتابات الإسلامية تميل إلى التنظير الثقافي، ولا يتم تنزيلها على
أرض الواقع الذي تعيشه الأمة، فهناك فجوة عميقة فسيحة بين الهم الثقافي والمعاناة
اليومية التي تعيشها الأمة الإسلامية، وإنّ التجريد والإغراق في التنظير، وتحويل
الكتابة إلى متعة ثقافية أو أطروحات فنية، لا يخدم الدعوة الإسلامية بحال، فما لم
تتحول الأطروحات الثقافية إلى مشروعات عمل وإنجازات مشاهدة ملموس فإنها
تبقى كلمات باردة لا حياة فيها.
إنّ الكتابة الإسلامية ليست صنعة يتكسب بها المرء، أو هواية يشغل بها وقته، وإنمّا هي إحساس بالمسؤولية ينبض بمشكلات الأمة واحتياجاتها، ومن ثم فإن
الكاتب الناجح هو الذي ينزل من صومعته الفكرية وبرجه العاجي ويتلمس هموم
الناس وأحاسيسهم، ولابد من تفاعل وتواصل يتسم بالحيوية والجدية بين الكاتب
والقارئ، ولكن مع الأسف الشديد لازال الخطاب الإسلامي بعيداً عن رجل الشارع، وهو أقرب إلى السلبية والارتجال، منه إلى الإحساس بواقع الأمّة.
لقد غلبت عزلة الكتاب الإسلامي عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ... فهو لا يقدم الأطروحات العلمية التي تنطلق من المستجدات المتلاحقة التي تمر بها
الأمة الإسلامية، والتي تفرزها بيئات متباينة سياًسًيا ًواجتماعياً، فالدراسات
الشرعية الحديثة المتخصصة في الفقه والتوحيد، ونحوهما اقتصرت على التحقيق
والترتيب والتبويب والاختصار، ونحو ذلك. وهذه مطالب في غاية الأهمية،
ولكنها قصرت تقصيراً واضحاً في معالجة احتياجات العصر ومستجداته.
ففي مجال الدراسات العقدية، قل أن تجد دراسات متخصصة لمناقشة
الفلسفات الغربية المعاصرة، التي ملأت الساحة بضجيجها، وقل أن تجد دراسات
متخصصة للرد على دعاة التغريب والحداثة، وما بعد الحداثة، ونحوها.
ومما يلزم ذكره أنّ أئمتنا وأسلافنا رضي الله عنهم كانوا يعالجون القضايا التي
احتاجت إليها عصورهم، فقضية الإمام الشافعي، تختلف عن قضية الإمام أحمد بن
حنبل، وتختلف عن قضية الإمام ابن تيمية، وإن كانت كلها تجتمع في إطار واحد
أما نحن فقد وقفنا عند قضايا المتقدمين، ولم نهتم الاهتمام اللازم بقضايا
عصرنا التي تحيط بنا من كل مكان، فعصرنا الذي نعيش فيه وإن كانت قضاياه
تشارك بعض قضايا هؤلاء الأئمة في بعض المسائل إلا أنّه قد استجدت فيه مسائل
وأحوال كثيرة تحتاج إلى اجتهادات جديدة ومعالجات علمية مستفيضة ينهض بها
علماء الأمة ومجتهدوها.
وأمّا في مجال الدراسات الفقهية فهناك قصور بيّن في دراسة فقه النوازل،
مثل: (المعاملات المالية المصرفية بتعقيداتها الكثيرة، التأمين، العلاقات الدولية..
ونحوها) . وإن كانت هناك إسهامات محمودة مشكورة في هذا الميدان، لكنها لا
زالت قليلة وتحتاج جهداً أكبراً
وأما في مجال السياسة الشرعية فالأمر فيها أصعب، والدراسات التي يُعتمد
عليها في هذا الباب لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكتاباتنا السياسية لا تعدُ في
الغالب أن تكون توصيفاً للواقع أو لبعض جوانبه، وهي تعمد غالباً إلى تصوير
العدو الخارجي وكأنه أخطبوط امتد لكي يحيط بكل شيء ويسيطر عليه، وأما نحن
فمجرد أحجار على رقعة شطرنج! ! ومن ثم فإنّ الخطط التي تدار، والدسائس
التي تحاك هي سبب هزائمنا المتلاحقة، والنتيجة الطبيعية هي الهروب من
المسؤولية بإلقاء التبعة على العدو الخارجي دائماً.! !
إنّ مشكلات الأمة الإسلامية، مشكلات كثيرة، متعددة الألوان متعددة
الاتجاهات، معقدة تعقيداً كبيرا، وتحتاج إلى دراسات علمية جادة ناضجة تنفذ إلى
العمق، وترسم السبيل الأمثل لوعي الأمة وعزتها.
الوقفة الثانية:
الموضوعية العلمية في البحث والدراسة والتحليل:
تميزت بعض الكتابات الإسلامية بضعف ظاهر في اعتماد الموضوعية العلمية
في البحث والدراسة والتحليل، ومن علامات ذلك:
أولاً: ضعف منهج الاستدلال العلمي:
إنّ الاعتماد على المصادر الشرعية للاستدلال والتلقي، مطلب أساس لسلامة
البحث العلمي واستقامته على الجادة الصحيحة، وقد تواترت الدلائل الشرعية
لتقرير ذلك والتأكيد عليه، قال الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى االله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاْ] [سورة النساء: الآية 59] ،
فالأدلة المتفق عليها هي: الكتاب والسنة والإجماع واختلف العلماء في القياس،
وأكثرهم على اعتباره دليلاً رابعاً إذا استوفى الشروط العلمية التي قررها علماء
الأصول.
وقد انحرف عن هذا السبيل فئتان:
الفئة الأولى: الذين أهملوا النصوص الشرعية عل اختلاف ظاهر في درجة
الإهمال وأدى ذلك إلى استحداث مصادر أخرى للاستدلال والتلقي. ومن هذه
المصادر:
(?) الاعتماد على الآراء والعقول البشرية المجردة، مع توافر النصوص
الشرعية المحكمة، كما هو الحال عند أصحاب المدرسة العقلية، ومن دار في فلكهم
من أهل الرأي الذين يعارضون بأقيستهم الفاسدة وآرائهم الناقصة النصوص الثابتة
المحكمة.
(?) الاعتماد على أقوال الشيوخ والرجال، وجعلها حجة في ذاتها وتقد يمها
على الكتاب والسنة الصحيحة.
(?) الاعتماد على الذوق والوجد والإلهام والكشف، كما هو الحال عند
الصوفية والباطنية.
(?) حصر الحق في منطقة أو بلد أو طائفة بدون حجة أو برهان.
الفئة الثانية: أخذوا بالأدلة المتفق عليها، ولكنهم تعاملوا معها بحرفية صارمة
أدت إلى الانحرافات التالية:
(?) عزل النص الواحد عن النصوص الأخرى، وأخذه كأنّه وحدة مستقلة،
أو أخذ النص بمعزل عن المقاصد الكلية للتشريع الإسلامي، وهذا يؤدي بالضرورة
إلى قصور بيّن في النظر، وعجز في التصور، ومعلوم أنّ المسألة لا تتضح
معالمها إلا إذا جمعت أطرافها واكتملت أجزاؤها.
(?) إهمال الأصول والقواعد العلمية التي أصّلَها الأئمة الأثبات في فهم
النصوص، مثل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه والناسخ
والمنسوخ، ونحوها.
(?) الاستهانة بأقوال الأئمة والفقهاء المتقدمين منهم والمتأخرين، بحجّة أن
النص موجود بين أيدينا، ويمكن أخذه مباشرة، فلسنا بحاجة للنظر في شيء آخر،
ويحتج بعضهم بأن أكثر الأئمة والفقهاء كان ينهى عن تقليده وكتابة أقواله واجتهاداته، وقد يقول: هم رجال ونحن رجال..!
وفي هذا المنهج خطورة بالغة لا تحمد عقباها، ونتيجتها الحتمية إهمال
التراث العلمي العظيم الذي ورثناه عن أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، وفرق كبير
بين تقليد الأئمة وجعل أقوالهم في منزلة أقوال النبي المعصوم -صلى الله عليه
وسلم-من جهة، والضرب بها عرض الحائط وإهمالها من جهة أخرى..!
(?) تأثر فهم الكاتب بالبيئة الاجتماعية والتربوية والنفسية التي نشأ عليها،
فإذا كانت البيئة تميل إلى التساهل فأحكامه واختياراته متساهلة، وإذا كانت البيئة
تميل إلى التشديد، فأحكامه واختياراته متشددة.
وخطورة هذا المسلك أنّ المرء يبني اجتهاداته العلمية بناء على الخلفية
الفكرية التي نشأ عليها، وهو لا يشعر بذلك على الإطلاق، فيكون اختيار الباحث
واجتهاده انعكاساًً لبيئته، ولذا فإن التجردفي البحث والتحليل من القضايا الدقيقة التي
تحتاج إلى مزيد عناية ونظر.
ثانياً: الاستهانة بعقل القارئ وفكره من خلال المسائل التالية:
1- تلقين القارئ:
يسعى بعض الكتاب إلى تلقين القراء الفكرة المرادة وكأنها لوائح إدارية
صارمة مجردة من الاستدلال العلمي والبرهان الشرعي، ودور القارئ التسليم
والقبول، ثم التلقي والأخذ، بدون نظر أو تأمل، لأنّ الكاتب قد كفاه المؤونة،
وفكرّ بالنيابة عنه.
فالكاتب بذلك يربي القارئ على التبعية والتقليد، وعلى الحفظ والتلقين،
وليس على النظر والتفكير، والنتيجة قدرة فائقة على الحفظ والاجترار، وعجز
ظاهر عن التأمل والتعقل والنقد البناء.
إن الكاتب المتميز هو الذي يربي عقل القارئ ويدفعه إلى التفكير ويستحثه
على النظر والمشاركة، ويفتح أمامه آفاقاً جديدة من البح فحينما ينهي القارئ الكتاب
الذي بين يديه، ويبدأ بنشاط عقلي جديد يدعوه إلى التأمل وتقليب النظر، ويثير
عنده الرغبة في المساهمة الفاعلة، فقدنجح الكاتب هنا نجاحاً ملحوظاً في ربط
القارئ بما كتب وبمقدار ما يشعر القارئ بالحيوية والتفاعل، يكون مقدار النجاح.
ولكن حينما يعجز الكاتب عن دفع القارئإلى التفكير ويبقي ذهنه ساكناً خاملاً،
فقدُ أخفق في ربطه والتأثير عليه، والقارئ الذي يفقد القدرة على التفكير هو
بالضرورة عاجز عن التفاعل والتواصل والانتفاع بما يقرأ..!
2- الوصاية على عقل القارئ وفكره:
يسعى بعض الكتاب إلى فرض الوصاية على عقل القارئ وفكره ومحاصرته، وإلزامه بالنتيجة التي توصل إليها، ويظهر ذلك في بعض الأحيان من عنوان
الكتاب فضلاً عن مادته الأصلية، فبعضهم يعنون لكتابه بقوله: (القول الفصل
في..) ، (نهي الصحبة عن ... ) ، (إلزام الأصحاب بـ ... ) ، ويشعر القارئ
حينما يقرأ لهؤلاء الكتاب في المسائل الخلافية التي تباينت فيها أنظار المجتهدين
قديماً وحديثاً، أنّ الحق معه بلا ريب، وأنّ مخالفه على شفا جرف هار يُخشى أن
ينهار به إن لم يتب ... !
وليس خطأ أن يجتهد الكاتب في ترجيح أحد الأقوال بدليله إذا استفرغ وسعه
وكان أهلاً لذلك ولكن الخطأ أن يصادر أقوال الآخرين ويحسم المسألة حسماً قاطعاً
لا مراجعة فيه، وفي هذا ازد راء بعلماء الأمّة ومجتهديها الذين لم يصلوا إلى ما
وصل إليه..! !
ويتفرع من هذه المسألة أنّ بعض الكتبة قد لا يلزم القارئ بالنتيجة التي
توصل إليها، ولكنه يوهمه بأنّ المسألة لا يوجد فيها إلا قول واحد، ويسعى لتلميعه
وإبرازه، وإن وجدت أقوال أخرى فهي عنده ضعيفة ليس لها حظ من الأثر أو
النظر، مع أنها قد لا تقل قوة عن القول الأول، وقال بها أئمة مجتهدون، وأخشى
أن يكون في هذا الأسلوب لون من ألوان الخداع وفقد للأمانة العلمية التي تعد لازماً
من لوازم البحث العلمي، كما أنّ فيها مشابهة لليهود الذين يكتمون الحق، قال الله
تعالى: [يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون]
(سورة آل عمران: الآية 71) .
والمنهج العلمي يقتضي عرض الأقوال والحجج بأمانة كاملة ثم يُرجّح بناء
على القواعد العلمية المتبعة عند علماء الأمة للترجيح بين الأقوال، قال ابن تيمية:
«يجب أن يكون الخطاب في المسائل بطريقة ذكر دليل كل قول ومعارضة الآخر
له، حتى يتبيّن الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته» [6] .
3- ضعف التركيز:
بعض الكتاب يبدأ الكتابة والفكرة لم تنضج بعد في ذهنه، ولم يتصور المسألة
تصوراً جيداً، فيضطر إلى الخلط والتلفيق، أو الدوران وفقدان التركيز، رغبة
منه في الوصول إلى مراده، فلا الكاتب قادر على استيعاب الفكرة، ولا هو قادر
على إيصالها إلى القراء، والننتيجة المتوقعة إزاء ذلك ضحالة الفكرة وميلها إلى
السطحية وقلة العمق.
إنّ الكاتب الناجح هو الذي يستطيع نقل الأفكار والمعلومات إلى القارئ
بأقصى قدر من المنهجية العلمية، مع سهولة العرض وسلاسة الأسلوب، وأمّا
الدوران والتنطع والتقعر في الكلام فكما أنّه يفسد الفكرة ويصعبها، فهو يُملل القارئ
وينفره.
قال الإمام النووي في بيان آداب التصنيف: «وليحرص على إيضاح العبارة
وإيجازها، فلا يوضح إيضاحاً ينتهي إلى الركاكة، ولا يوجز إيجازاً يفضي إلى
المحق والاستغلاق» [7] .
وقال ابن الأنباري: «متى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة، كان أولى من
جعله جملتين من غير فائدة» [8] .
4- المنحى العاطفي:
يغلب الخطاب العاطفي على كثير من الأطروحات الإسلامية، فالمواعظ
والقصص هي السائدة في طريقة المعالجة لعامة القضايا، فالربا مثلاً لا يُعالج
معالجة فقهية اقتصادية مؤصلة، تحدّد فيها أبعاد المشكلة ومعالمها، ثم تحدد آثارها
وأخطارها على الفرد والمجتمع، ثم ترسم الحلول والبدائل العلمية الجادة، للنهوض
بالأمة من هذا المأزق الخطير.
وهكذا عامة قضايا الأمة ينبغي أن تعالج بعلمية، ولا تعالج بعواطف
وعموميات تحوم حول الحمى ولا تقترب من أصل الداء، ولا بأس أن توجد كتابات
تركز علي الجانب العاطفي، أو تتخصص فيه في مقاماتها، ولكن لا ينبغي أن
تكون هذه صفة سائدة في الخطاب الإسلامي، فالخطاب الوعظي يصلح لبعض
الناس، ولكنه لا يصلح لهم جميعاً، كما أنّه يصلح لمعالجة بعض الموضوعات،
لكنه لا يصلح لها جميعاً والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه اللائق به شرعاً
وعقلاً.
يخيّل إليّ وأنا أقرأ لبعض الكتّاب أنّ تخلف الأمة القرون الماضية كلها يمكن
أن يعالج بإذكاء العاطفة والإصلاح القلبي، ولا شك بأنّ هذا تبسيط ضيق الأفق،
وإيقاظ البعد الإيماني لمعالجة مشكلات الأمّة مطلب أساس ولكنه بالمفهوم الشامل
المتكامل لمعنى الإيمان، ومن مقتضيات ذلك رسم الأوعية الشرعية الأصيلة
للنهوض بالأمّة من كبوتها.
5- ضعف الرؤية الشاملة:
تفتقر بعض الكتابات الإسلامية إلى الرؤية الشاملة لللإسلام، وإنمّا تأخذ
أصول الإسلام وشرائعه أجزاء متفرقة لا صلة لها ببعضها.
وظهر في هذا الإطار اتجاهان:
الاتجاه الأول: ركز على القضايا الكلية، وأهمل ما يسميه بالثانويات
والقشور والشكليات، مع أنّها كلها ثابتة بالنصوص الصحية عن النبي -صلى الله
عليه وسلم-على اختلاف بيّن في تحديد المقصود بالكليات والثانويات.
ومن ذلك أنّ أحدهم كان ينعى على بعض الناس اشتغالهم في إثبات صفة
اليدين لله سبحانه وتعالى، وفي الوقت الذي تمتد فيه أيادي اليهود والنصارى لسرقة
مقدرات المسلمين وأموالهم، فضلاً عن أيدي فساق المسلمين التي ترابي وتغش
وتحتكر..!
وأحسب أنّ هذا الاختلاف مفتعل تماماً، والحقيقة أنّه يمكن إثبات يدين لله
سبحانه وتعالى تليقان بكماله وجلاله وعظمته، ومع ذلك يمكن محاربة اليهود
والنصارى والتحذير من المرابين ونحوهم، وأمّا تشطير الدين وتبعيضه فمما لم
يرد عن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين.
الاتجاه الثاني: ركز على جزئيات الشريعة ووضعها في موضع الكليات،
وأدى ذلك إلي التساهل في الأخذ بأصول الإسلام، وصرف الطاقات في قنوات
مفضولة.
والصواب أنّه لا يجوز الاشتغال بالفروع على حساب الأصول ولا بالجزئيات
على حساب الكليات، كما لا يجوز إهمال الفروع والاستهانة بها، بدعوى أنها
قشور وثانويات، فكل شيء ثبت في دين الله عز وجل فهو حق يجب أن يقدّر حق
قدره، ويوضع في موضعه اللائق شرعاً.
ونصوص الشرع وقواعده تقتضي البدء بالأهم فالمهم، كما جاءذلك في حديث
عبد الله بن عباس، لما بعث النبي صمعاذاً إلى اليمن. [9]
وفقه الأولويات من المسائل المهمة التي تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة
وتأصيل.