مجله البيان (صفحة 171)

سيطرة العادة وتحكيم الهوى من مقومات الجاهلية

سيطرة العادة وتحكيم الهوى

من مقومات الجاهلية

محمد الناصر

كان أهل الجاهلية يعظمون الآباء والأجداد، ويتغنون بمفاخر القبيلة، فهم

أكثر الناس عدداً، وأقواهم شكيمة، وأعلاهم نسباً، فالكبر ديدنهم، وعظمة الدنيا

تملأ قلوبهم، من كثرة الأموال والبنين إلى الخيل المسومة.. وقطعان الإبل

والمواشي.

ومع الزمن كانت هذه التقاليد قد أصبحت ديناً، فلا يجوز المساس بها، ولا

يصح الخروج عما تعارف عليه أبناء القبيلة الواحدة.

كاد الفرد أن يلغي عقله أمام مطالب العادات الموروثة، وعندما أطلت تباشير

الدين الجديد اصطدم الدين الحنيف بهذه التقاليد، ولذلك حذر الإسلام من التعلق

بالعادات الضالة وندد بفعل أصحابها، وحذر من الوقوع في متاهاتها بعد نعمة

الإسلام.. ونستعرض بعض هذه العادات المذمومة كنماذج فقط.

الفخر بالأحساب:

قال -عليه الصلاة والسلام -:

«أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب،

والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والناحبة -أو قال: النائحة- إذا لم تتب

قبل موتها» [1] .

دل الحديث على بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من الخصال الرديئة،

وورثتهم اليوم طائفة من هذه الأمة تجاوزوا فيها أسلافهم، فتراهم يفتخرون بمزايا

آبائهم وهم عنهم بمراحل، فهذا يقول: كان جدي الشيخ الفلاني، وهذا يقول:

جدي العالم الرباني.. إلى غير ذلك [2] .

ويذكر ابن تيمية -رحمه الله-: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو

حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل..

ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحداً بنسبه ولا يذم أحداً بنسبه، وإنما

يمدح بالإيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان، ثم استشهد بالحديث

الشريف: «أربع من أمر الجاهلية» ، وقد سبق ذكره، فجعل الفخر بالأحساب

من أمور الجاهلية « [3] .

لقد غلا القوم في تعظيم الأسلاف والأكابر حتى حجبهم هذا التعظيم عن قبول

دين الحق، فحال هذا التقليد دون إسلام أبى طالب، رغم اعتقاده بصدق ابن أخيه

-صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه من هدى.

وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال:» لما حضرت أبا طالب

الوفاة، جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو

جهل، فقال: ياعم؛ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له:

أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم-، فأعادا،

فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا ... الله « [4] .

والعصبية والتمسك بتراث الأسرة والعشيرة هو الذي جعل أبا جهل يقول:

تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا

فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه

الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا؟ ، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه [5] .

لقد رفض الإقرار بالحق، وبالقرآن الذي استمع إليه خلسة مع نفر من

أصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جوار الكعبة، وتأثروا بما

سمعوا.. لكنها التقاليد والعادات والحفاظ على موروثاتها.

كان المشركون يستكبرون على المرسلين، [إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاَّ

اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ] [6] ، فالتكبر

والإعراض والجمود على العادات السقيمة كانت من أمراض الجاهلية وما تزال.

والثأر: عادة متأصلة، تسببت في حروب لا تنطفىء، وكان الثأر من أرسخ

عادات الجاهلية وأقواها أثراً.. وكثير من أيام العرب كان السبب الأول فيها الثأر،

كحرب البسوس، وأيام الأوس والخزرج وغيرها.

وقبيل فتح مكة المكرمة اعتدى بنو بكر على خزاعة في وقعة الوتير، ثم

ألجأوهم إلى الحرم قالت عندها بنو بكر لقائدهم نوفل بن معاوية الديلي: يا نوفل،

إنا دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم، يا بني بكر:

أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ [7] .

لقد نسي نوفل هذا قدسية الحرم (عندهم) ، وتجاهل حتى التأدب في ألفاظه في

سبيل إصابة الثأر.

وكان من هذا القبيل أن صحابياً فاضلاً (وهو: عبد الله بن عبد الله بن أبي

سلول) يعرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل أباه رأس النفاق،

لما بلغه قوله: [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ، لأنه يخشى إن قتله مسلم ألا

تطاوعه نفسه فيثأر فيقتل مسلماً بمنافق:» وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله،

فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله، فأقتل

مؤمناً بكافر فأدخل النار [8] .

عادات وأعراف ليس من السهل التخلص منها بسرعة ... العادات متأصلة

قضى الإسلام على السيء منها، وأحل محلها تشريعات عادلة.. حرم إراقة دم

المسلم، [ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ

وأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً] [9] .

وجعل إقامة الحد للحاكم المسلم، فنظم الحقوق، وشفى النفوس، [ولا تَقْتُلُوا

النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف

فِّي القَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً] [10] .

إن الإسلام قضى على عادة الثأر بتشريع القصاص: [ولَكُمْ فِي القِصَاصِ

حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [11] .

وفي أيامنا هذه يقتل البريء -فى كثير من الحالات- ويترك الجاني، لأن

أهل القتيل لم يستطيعوا التوصل إليه، وتناسى الناس مدى حرمة دم المسلم،

وانتكسوا في الجاهلية من جديد.

التقليد الأعمى:

أهل الجاهلية كان دينهم مبنياً على أصول، أعظمها التقليد، فهو القاعدة

الكبرى لجميع الكفار من الأولين والآخرين كما قال تعالى: [وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن

قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم

مُّقْتَدُونَ] [12] .

[وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ

كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ] [13] .. إلى غير ذلك مما يدل على أن

أهل الجاهلية كانوا في ربقة التقليد لايحكمون لهم رأياً ولايشغلون فكراً، ولذلك

تاهوا في أودية الجهالة، وعلى طريقتهم كل من سلك مسلكهم في أي عصر كان.

فأهل الجاهلية جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل، أنه

لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم وجمود ... قرائحهم [14] .

يقول تعالى: [وانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا

لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ] [15] .

إن المتتبع لأحداث التاريخ وتراجم الماضين ليقف حائراً مدهوشاً لما يرى من

وقائع مذهلة أقدمت عليها طوائف من الناس، فأسبغت قدسية وتعظيماً على الآباء

والشيوخ والأجداد، وأطلقت عليهم من الصفات والنعوت ما يطلق عادة على الآلهة.. ولتقاليد الأسلاف سلطان قوي يخلب ألباب البشر، وسلطان الأجداد والشيوخ

يجب أن يقف عند حد معين لا يتجاوزه، وإلا كان وبالاً ومصيبة على البشرية، لا

يعرف مداها إلا الله [16] .

إن اتباع العادات كان سبباً في مجانبة الحق، لأن أصحابها يقدمونها على

السنة. يقول الإمام الشاطبي:

«من أسباب الخلاف ... التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت

مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد

المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه بقوله: [إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ] . وقوله:

[قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ] ، فنبههم على وجه

الدليل الواضح، فاستمسكوا بمجرد التقليد.. فقالوا: [بَلْ وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ

يَفْعَلُونَ] [17] .

وللاستفادة مما كان عليه الآباء ينبغي أن يخضع ذلك للكتاب والسنة، للعلم

والهدى، لأنه:» إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضاً لا

يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه « [18] .

إن الخطورة تكمن في تحكيم العادات في أمر الناس ولو خالفت الكتاب والسنة، وما من عادة سيئة أو بدعة محدثة إلا وتُميت سُنة نيِّرة.. ولذلك حرر الإسلام العقول من الجمود على الماضي أو العادات الدارجة ذات الإلف إلى النفوس، وسد كل الطرق المؤدية إلى تشويه صفاء التوحيد والعقيدة.. كتعظيم القبور والأضرحة، وما شابهها.

قال -صلى الله عليه وسلم-:» لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم،

إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله «أخرجه الشيخان.

وقال -صلى الله عليه وسلم- محذراً من الغلو:

» إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو « [19] .

لقد أهلك الغلو أناساً كثيرين من طوائف هذه الأمة، وسما الإسلام بعقلية

المؤمنين، واشترط أن يكون هوى المؤمن تبعاً لأحكام الشرع. وفي الحديث

الشريف عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- قال:» لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به « [20] .

وهكذا حرم الإسلام الغلو في الرجال وفي المعتقد، وحرم كذلك الأهواء

وتحكيم العقول في معارضة الأدلة الشرعية الصحيحة، ومنذ القديم ضلت المعتزلة

بسبب تحكيم العقل في كتاب الله، ولاتباع الهوى في التأويل، وكثرة الجدل.. قال- عليه الصلاة والسلام -:» ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل « [21] .

اتباع الهوى من رواسب الجاهلية:

كان أهل الجاهلية يتبعون أعراف الآباء وموروثات الأجداد، فليس لديهم

تشريع سماوي، وكانوا يحكمون الشهوة والهوى ونزوة العقل كما يحلو لهم، ذلك

أنه لا معبود لهم إلا الهوى صراحة أو مواربة، وعلى» حسب المعبود يكون منهج

الحياة، فحين يكون المعبود هو الله يكون منهج الحياة هو المنهج الرباني المبين فيه

الحلال والحرام والحسن والقبيح والمباح وغير المباح، وحين يكون المعبود شيئاً

آخر يكون منهج الحياة هو الذي يمليه ذلك الشيء المعبود، سواء كان هو الهوى

صراحة دون مواربة، أم كان هو الهوى من وراء أستار وشعارات وعناوين! ومن

ثم تتعدد الصور في الجاهليات المختلفة، وتلتقي في أنها كلها هوى.. إن يكن هوى

فرد بعينه أو مجموعة أفراد أو هوى كل الناس مجتمعين.. فكلها في النهاية ... أهواء « [22] .

إن الشريعة حدت من تحكيم الهوى، وضبطت الأمور بالنصوص الثابتة،

فحرمت البدع في الدين لأنها تقّول على الله ورسوله؛» لأن الشريعة كانت إذا

أخذت في الدروس بعث الله نبياً من أنبيائه يبين للناس ما خُلقوا لأجله، وهو التعبد

لله.. وأن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال

فيها: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] [23] .

وفي الحديث الشريف الذي رواه العرباض بن سارية -رضي الله عنه-:

«فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ.. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل

محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [24] .

فاتباع الهوى في التشريع حقيقته افتراء على الله تعالى.. يقول تعالى:

[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ] [25] .

لذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها،

والمعصية يتاب منها [26] .

إن اتباع الهوى والغلو في الرجال والعقائد ضلَّل كثيراً من الفرق، كالخوارج

والشيعة.

أما الخوارج: فقد غلوا في فهم آيات الوعيد، وأعرضوا عن آيات الرجاء،

وأما الشيعة: فقد كان الغلو كذلك أحد أسباب ظهورهم، وابن سبأ اليهودي كان

حامل لواء الرفض، ثم كان مقتل الحسين-رضي الله عنه- مقوياً لتيار الغلو عندهم، ثم استمر خط التشيع في الانحراف حتى وصل الغلو إلى رفع الأئمة لدرجة النبوة، بل وإلى مقام الألوهية عند بعض طوائفهم [27] .

وكان تحكيم العقل في القضايا الشرعية وتعريب كتب الفلسفة من أسباب

ظهور البدع في المجتمع المسلم، إذ كان المعتزلة قد ضخموا دور العقل في القديم،

وكذلك القدرية والجهمية والمرجئة، فقد ضلوا من قبل لتحكيمهم العقل في أمور

العقيدة، وعدم قبول أي حديث يخالف ما تقرر في أذهانهم بحكم العقل أو تأويلهم له، فأدى ذلك بهم إلى رد كثير من الأحاديث الصحيحة والطعن في رواتها [28] .

ولذلك كان الجدل مذموماً، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أبغض الرجال

إلى الله الألد الخصم» [29] .

وروي عن الأوزاعي قوله: «إذا أراد الله بقوم شراً؛ ألزمهم الجدل ومنعهم

العمل» [30] .

وفي العصر الحديث ظهرت طوائف سارت على خُطى المدرسة العقلية

الاعتزالية، تحسِّن ما تشاء، وترد من أحاديث المصطفى ما تشاء، لتساير

الحضارة الغربية في زعمها، مدرسة عصرية عقلية، بل مدرسة انهزامية أمام

حضارة التيه والضياع، تريد التفلت من تراثنا وسنة نبينا لتتبع الناعقين من اليهود

والنصارى ولو دخلوا جحر ضب لدخلوه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-:

«لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه،

قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» [31] .

يروى عن الأوزاعي أنه قال: «اصبرْ نفسك على السُّنة، وقِفْ حيث وقف

القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه

يسعك ما وسعهم [32] .

نعم يسع المسلم اليوم ما وسع سلفه الصالح من التمسك بالسنة الصحيحة،

والعقيدة الصافية، وفي ذلك النجاة بإذنه تعالى من الضلال والانحراف وتشعبات

الفرق الضالة.

حياتنا المعاصرة وبعض صور التقليد المذمومة:

في حياتنا المعاصرة، وبعد أن أنعم الله علينا بالإسلام، ترى أن اتباع الهوى

والعرف والتقليد، ما يزال يحجب الحق عن عدد كبير من طوائف المسلمين،

والغلو بالشيخ أو الزعيم ما زال له دوره، إن هؤلاء» يقلدون شيوخهم في الخطأ

والصواب من أفعالهم، ويأخذون عنهم كل ما يأمرون به أو يدعون له، ولا يقبلون

بهم نقداً أو نصحاً.. ورغم ذلك يزعم هؤلاء الأتباع أنهم مؤمنون بضرورة التجديد

والتغيير ووجوب التمسك بالبينة والدليل «.

» تُرى لو جمد عقل صلاح الدين الأيوبي على مثل هذه الأفكار هل كان

قادراً على دحر قوات العدو، وتحرير القدس وبلاد الشام من دنس الصليبيين

والباطنيين العبيديين؟ وهل كان شيخ الإسلام ابن تيمية قادراً على إصلاح ما فسد

من عقائد الناس، وتوحيد كلمة المسلمين وجمعهم على مواجهة التتار، وما أعقبه

من نصر؟ «.

» مثل هذه المناهج لا تصلح أن تكون أساساً للتغيير ووحدة صف المسلمين

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نختصر الطريق، ونعود إلى التمسك بالمنهج

الأول الذي صلح به أمر هذه الأمة من قبل؟ ولا صلاح لأمتنا اليوم إلا به [33] .

قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما

بدأ» [34] .

لابد من العودة إلى منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، وإن تقديس الأضرحة

والتبرك بها، والتعلق بخرافات التصوف وتهويمات المشايخ، أبعد كثيراً من

المسلمين عن منهج السلف الصالح والتقيد بالكتاب والسنة.

إن الغلو في الشيخ أو الأمير أبعد كثيراً عن تحكيم دينهم، لأنه لا يمكن أن

يفهم هؤلاء كفهْم الشيخ أو الزعيم، لأن الفتوى جاهزة، وهذا بلاء وفتنة، وتربية

الأتباع لا الأحرار.

قال ابن عباس -رحمه الله-: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛

أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر وعمر!» .

وقال الإمام الشافعي: «أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد» . وقال أيضا: «إذا صح

الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط» .

وقال الإمام مالك: «ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر -

صلى الله عليه وسلم» . وقال: «ما كان من كلامي موافقاً للكتاب والسنة فخذوا

به، وما لم يوافق فاتركوه» [35] .

إلا أن التقليد دفع البعض في العصور المتأخرة إلى التعصب الذميم البشع

لآراء الأئمة وأقوالهم، وتقديمها في أحيان كثيرة على النصوص الصريحة المخالفة

لهذه الآراء والأقوال … « [36] .

رغم أن الأئمة كانوا ينهون من أخذ عنهم من مغبة التقليد دون معرفة الدليل

الشرعي الذي أخذوا عنه رأيهم، وأن الأئمة أنفسهم كانوا يرجعون عن رأيهم إذا

تبيَّن لهم الدليل.

قال الشاطبي - رحمه الله -:» ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل ...

والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسب ذلك عن جادة الصواب والتابعين،

واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلُّوا عن سواء السبيل « [37] .

وأخيراً: لابد من العودة إلى منهل النبوة الصافي وما كان عليه سلف هذه

الأمة، وطرح الأعراف والبدع المستحدثة. اللهم جنبنا الهوى وابعدنا عن الزلل.

والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015