أدب وتاريخ
وبعض الدول المعاصرة لها
محمد العبدة
كنت أعلم أن للمؤرخ ابن الأثير موقفاً من الدولة العبيدية - التي تسمى بالفاطمية- يتعلق بتصحيح نسبهم إلى علي -رضي الله عنه-، وهي القضية التي أثير حولها جدل كبير بين القدماء والمعاصرين، وكنت أظن أن الأمر يتعلق بموضوع النسب فقط، وهو شبيه بموقف ابن خلدون أيضاً، وإن كانا قد خالفا في هذه المسالة أكثر علماء الأمة ومؤرخيها. ولكن من خلال قراءتي لأحداث القرنين الرابع والخامس في (الكامل) تبين لي أن ابن الأثير لا يصحح النسب فقط، بل هو متعاطف مع هذه الدولة بشكل عام، فهو يمدح ملوكهم ويبرز محاسنهم ولا يذكر عيوبهم، ويؤكد في كل مرة يترجم لأحدهم بقوله: (الخليفة العلوي) ، كأنه يريد أن يرسخ هذا في ذهن القارئ، ثم تبين لي أنه يغرق في مدح بعض ملوك الدولة البويهية وأمراء الدولة الأسدية والحمدانية، وهذه الدول والإمارات كلها غير ... سنية.
ثم رجعتُ إلى حوادث المائة الأولى من الهجرة، لأرى كيف عرض
لموضوع الدولة الأموية والأحداث التي عاصرتها، فتأكد لي هذا الاتجاه عنده.
ونحن لا نريد مناقشة ابن الأثير حول نسب العبيديين، فقد كتب الكثير حول
هذا الموضوع، وآراء العلماء والمؤرخين الذين دحضوا نسبهم وكذبوهم فيه
موجودة معروفة لمن أرادها، ولكن سنكتفي بذكر أعمالهم القبيحة التي لم يشر إليها
هذا المؤرخ ولم يعلق عليها أو ينتقدها، مع أنه نقد أعمال غيرهم من الملوك الذين
هم أفضل منهم بكثير، بل لا يقارنون بهم، ومع أن ابن الأثير من أسرة علمية
مشهورة، فهو صاحب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) ، وأخوه مجد الدين أبو
السعادات صاحب (جامع الأصول) ، ووالده من كبار موظفي الدولة الزنكية، وهي
دولة سنية، وعاش في مدينة سنية وهي الموصل، وقد تتبعت من كتب عنه أو
ترجم له أو لمن أخذ عنهم من العلماء؛ فلم أجد جواباً شافياً عن السؤال المتبادر: ما
هو سبب هذا الاتجاه عند ابن الأثير؟ ؛ وقد انتقدوه لتحامله أحياناً على صلاح
الدين الأيوبي، وعللوا ذلك بتعصبه للأسرة الزنكية والأخلاق، ولكن لم يشيروا إلى
مدحه لملوك الدولة العبيدية وغيرهم مما سنوضحه في هذا المقال، ولعل الله ييسر
لنا الاطلاع على مصادر أخرى، لنحاول كشف أسباب هذا الميل عند مؤرخنا
الكبير.
الدولة العبيدية:
نشأت هذه الدولة في المغرب بين قبائل تجهل الإسلام؛ فانخدعوا بدعوة أبي
عبد الله الشيعي، وناصروه حتى استقر له الأمر، واطمئن فكتب إلى رئيسه
الباطني في مدينة (سلمية) في بلاد الشام أن يقدم إليه، فلما دخل المغرب تسمَّى
بعبيد الله، ولقَّب نفسه بالمهدي، والعلماء يقولون: إن اسمه سعيد، وهو من ولد
ميمون القداح الملحد المجوسي. وعندما تمكن عبيد الله بطش بأقرب الناس إليه
والذي أسس له الملك، داعيته أبي عبد الله الشيعي، وبطش بالمخالفين من قبيلة
(كتامة) ، ولم يعلق ابن الأثير على ظلمه هذا، بينما نجده ينتقد ما فعله عبد الملك
بن مروان بعمرو بن سعيد الأشدق حين غدر به وقتله، فقال: «وكان عبد الملك
أول من غدر في الإسلام» [1] ، وعندما ذكر كلام عبد الملك في مرضه الأخير
وهو يذم الدنيا ويحذر من الآخرة قال: «ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا ويخاف،
فإن من يكون الحجاج بعض سيئاته، علم أيَّ شيء يقدم عليه» [2] ، أما ما فعله
عبيد الله بالعلماء العاملين الذين كرهوا دولته وعقيدته الفاسدة كالإمام أبى جعفر
محمد بن خيرون المعافري، حين قتل تحت أرجل زبانية عبيد الله [3] ، فهذا لا
يذكره ابن الأثير، وجرائم عبيد الله وذريته بعلماء أهل السنة كثيرة كابن البردون
الإمام الشهيد، الذي قتله داعية عبيد الله صلباً [4] ، والإمام الشهيد قاضي مدينة
برقة محمد بن الحبلي الذي قتله إسماعيل الملقب بالمنصور، وهو حفيد عبيد الله.
يقول الذهبي: علق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق،
ثم صلبوه، فلعنة الله على الظالمين [5] .
يقول المؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الملقب بأبي شامة عن عبيد
الله: «وكان زنديقاً خبيثاً عدواً للإسلام، متظاهراً بالتشيع، قتل من الفقهاء
والمحدثين جماعة كثيرة، ونشأت ذريته على ذلك، وكان يرسل إلى الفقهاء
والعلماء فيذبحون في فرشهم، وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين» [6] .
ويقول عن أولاده: «ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم، وزاد شره على شر
أبيه أضعافاً، وجاهر بشتم الأنبياء» [7] .
هذا رأي كثير من علماء المسلمين والمؤرخين في ذرية عبيد الله، ولكن ابن
الأثير في ترجمته لملوك هذه الدولة لا يكتفي بالسكوت عن مساوئهم، بل يمدحهم
ويطريهم، ويحاول التهوين من شأن عقائدهم المخالفة لعقائد أهل السنة. قال في
ترجمة معد بن إسماعيل الملقب بالمعز، وهو رابع ملوكهم: «وكان فاضلاً جواداً، شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة وإنصاف الرعية، وستر ما
يدعون إليه إلا عن الخاصة، ثم أظهر، وأمر الدعاة بإظهاره، إلا أنه لم يخرج فيه
إلى حد يذم به» [8] .
وإذا كان سب الصحابة وإكراه الناس على عقائدهم الفاسدة شيء لا يذم، فمتى
إذن يذمون؟ ! .
وحاول مرة أخرى الاعتذار عن شاعر (المعز) محمد بن هانئ الذي قتل في
برقة وهو مرافق لسيده في انتقاله إلى مصر، قال: «وكان من الشعراء المجيدين
إلا أنه غالى في مدح المعز، حتى كفَّره العلماء لقوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وبعد أن سرد له أشعاراً أخرى توجب الكفر قال:» وبالجملة فقد جاوز حد
المديح «، هكذا مجاوزة فقط، وليس كفراً صريحاً.
وبعد أن استقر المقام للمعز في مصر أرسل أحد قواده لأخذ بلاد الشام،
واستطاع هذا القائد احتلال دمشق، إلا أن الشريف أبا القاسم الهاشمي جمع الناس
للمقاومة، فقال ابن الأثير:» فجمع أحداثها، ومن يريد الفتنة، فثار بهم في
الجمعة الثانية، وأبطل الخطبة للمعز « [9] .
والمعز هذا الذي يقول عنه ابن الأثير:» وكان فاضلاً «كان مغرمَّاً بالنجوم
ويعمل بأقوال المنجمين، وقد أشار عليه أحدهم أن يختفي سنة كذا لأنها شؤم عليه،
فعمل سرداباً واختفى فيه، فكان أحد جنوده إذا رأى سحاباً سلم عليه ظناً منه أن
المعز فيه [10] ، وهذا يدل على تشجيعه للغلو فيه.
وجاء بعد المعز ابنه نزار الملقب بـ (العزيز) الذي استوزر يعقوب بن
يوسف ابن كلس، وهو يهودي الأصل، ثم عيسى بن نسطورس النصراني الذي
استناب على الشام يهودياً يعرف بـ (منشا) ، فارتفعت كلمة النصارى واليهود في
عهد هذا الوزير، وكان وزير المنصور الملقب ب: (الحاكم) وزيراً نصرانياً اسمه
فهد بن إبراهيم. كما أن وزير الحافظ كان بهرام الأرمني الذي استقطب حوله أبناء
جنسه وأساء السيرة، حتى اضطر للهرب إلى بلاد الشام [11] .
وأما أفعال (الحاكم) القبيحة، ومحاولة ادعائه الربوبية، وتصرفاته الغريبة
المتناقضة فهي مشهورة معلومة، وفي أواخر عهد العبيديين: استعانوا بالروم خوفاً
من توسع دولة نور الدين زنكي، مما اضطره لإرسال صلاح الدين الأيوبي لإنقاذ
مصر من الخطر المحدق بها.
والخلاصة أنها دولة باطنية إسماعيلية ابتلي بها المسلمون أكثر من قرنين.
مع البويهيين:
ليس من العسير لمن يقرأ ما كتبه ابن الأثير في (الكامل) أن يحس بتعاطفه
مع الدولة البويهية، فهو لا يذكرهم إلا مادحاً معظماً الأوائل منهم، بل يغالي في
المديح أحياناً عندما يعتبر وفاة ركن الدولة الحسن بن بويه مصيبة للدين والدنيا معاً، ثم يقول في نهاية ترجمته: (رضي الله عنه وأرضاه) .
وفي ترجمته لمعز الدولة البويهي -وهو ثالث الإخوة الذين حكموا العراق
وبلاد فارس-، يقول ابن الأثير:» وكان حليماً كريماً عاقلاً «. أما ابن كثير
فيقول عنه:» بنى داراً ببغداد، فخرب معالم بغداد بسببها، وكان رافضياً خبيثاً،
وفي عهده كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد بلعن كبار الصحابة من
الخلفاء الراشدين ولم ينكر عليهم معز الدولة، ولم يغيِّره، قبَّحه الله وقبح شيعته من
الروافض « [12] .
ويقول ابن الأثير عن عضد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه:» وكان
عاقلاً فاضلاً، حسن السياسة، كثير الإصابة، محباً للفضائل وأهلها « [13] .
والحقيقة: أن عضد الدولة لا يختلف كثيراً عن (معز الدولة) ، وكان وزيره
نصر بن هارون نصرانياً، وهو الذي أنفق سنة كاملة لعمارة المشهد العلوي [14] . والدولة البويهية كانت من الأسباب القوية لإضعاف الخلافة العباسية، بل فكَّر
ملوكها بإزالة الخلافة عن بني العباس ونقلها إلى الطالبيين، لولا النصيحة التي
جاءت بأن وجود خليفة عباسي ضعيف خير من وجود خليفة طالبي تزول بوجوده
شرعية البويهيين أمام أتباعهم الشيعة، ومع ذلك فقد كانوا مستهترين بالخلافة، فقد
نهب بهاء الدولة قصر الخليفة الطائع وقبض عليه وخلعه من الخلافة، وكانت
للدولة البويهية صلات جيدة مع القرامطة الباطنيين [15] .
ولم يقدموا أي مساعدة للمسلمين الذين قدموا بغداد سنة 361 هـ مستغيثين
من الروم، وكان السلطان البويهي في رحلة صيد في الكوفة فخرج أهل بغداد
منكرين عليه ذلك، فوعدهم بالمساعدة، ثم إن " بختيار " طلب من الخليفة مالاً
لتجهيز الناس، وأجبره على دفع المال، ثم صرفه في مصالحه الخاصة وبطل
حديث الغزاة [16] .
الإمارة الأسدية:
عندما ضعفت الخلافة العباسية طمع كل صاحب قوة في اقتسامها، وأخذ
جزءاً منها ليعلن فيه مملكته ولو كانت هذه المملكة مدينة صغيرة، وفي هذا الجو
من التمزق والأنانية وجدت الإمارة الأسدية، نسبة إلى بني أسد بن خزيمة، وأول
أمرائهم المشهورين: علي بن مزيد، ثم ابنه المنصور، وبرزت في عهد صدقة بن
منصور الذي أنشأ مدينة الحلة [17] واتخذها عاصمة قبيلته وإمارته، كما اتخذوا
التشيع عقيدة لهم.
هذه الإمارة مثل بقية الدول الصغيرة التي عاشت في هذا العصر، تعيش على
التناقضات والتحالفات مع السلاطين الأقوياء ولا تهتم بمصلحة عامة، فهي لا تقيم
ديناً ولا دنيا، وإن كان أمراؤها الأوائل من أصحاب الشجاعة والكرم.
وابن الأثير يمدح هؤلاء الأمراء ولا يذكر مساوئهم، وأهمها: الخروج على
الخليفة وعلى السلطان السلجوقي، وإفناء الناس بحروب تخدم مصلحتهم، فقد قتل
صدقة بن دبيس في قتاله مع السلطان محمد بن ملكشاه وهو عند مؤرخنا (من
محاسن الدنيا) . أما ابنه دبيس بن صدقة فقد عاث في الأرض فساداً، فاضطر
الخليفة لقتاله، ودارت الدائرة على دبيس فانهزم وفر إلى شمالي الجزيرة، والتحق
بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وحسن لهم أخذها، ثم فارقهم والتحق بالملوك
السلاجقة، ثم قتله السلطان مسعود بن محمد، يقول الذهبي:» وأراح الله الأمة
منه، فقد نهب وأرجف وفعل العظائم « [18] .
استمرت هذه الإمارة بعد دبيس ضعيفة ممزقة قائمة على النهب والسلب
والإفساد، مما اضطر الخليفة أن يأمر بإجلاء بني أسد عن الحلة، وذلك عام
558 هـ.
الصليحيون:
كما يمدح ابن الأثير علي بن محمد الصليحي الذي ملك اليمن كلها عام
455 هـ، وكان داعية للدولة العبيدية في مصر، فيقول عنه:» ودخل مكة مالكاً لها، وظهرت منه أفعال جميلة « [19] ، ولا يذكر أنه على مذهب العبيديين.
وقد يقال: إن ابن الأثير مؤرخ حيادي، يذكر ما سمعه، وما نقله، ولا
يتدخل في النصوص، وإنما يعرضها كما وجدها، ويترك مهمة البحث والنقد لغيره. ولكننا نراه في مواضع أخرى ينتقد أو لا يذكر محاسن بعض الملوك، ويمدح في
حين يمدح غيرهم كما مدح ملوك البويهيين والعبيديين.
فعندما ترجم للخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي صاحب الأندلس لم يزد على
أن ذكر أوصافه الجسمية، وكم بقى في الحكم، ولم يذكر شيئاً من حسناته وفتوحاته
وجهاده مع الفرنجة، واكتفى بالقول في نهاية الترجمة:» وكان ناسكاً « [20] .
هذه أمثلة من مزالق خفية، أردت التنبيه عليها، والقصد هو تنقيح تاريخنا
وتصحيحه، ولم أرد من ورائها تنقص ابن الأثير، ولا التهوين والإقلال من قيمة
كتابه (الكامل) ، فهو مجهود عظيم يستحق التقدير.