دراسات تاريخية
منهج التفسير التاريخي
قواعد منهجية في تفسير الحوادث والحكم عليها
د. محمد آمحزون
تناول الأخ الكاتب في الحلقتين السابقتين بالعرض للقواعد الثمان المنهجية في
تفسير الحوادث والحكم عليها، وتتلخص فيما يلي:
1- اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما نصت عليه من
أخبار وضوابط وأحكام.
2- الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث.
3- أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين.
4- ذكر العوامل المؤثرة في حركة التاريخ.
5- العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، والتثبت فيما يقال عنهم.
6- الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف.
7- العبرة بكثرة الفضائل.
- إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد.
ويواصل الحديث عن بقية القواعد في هذه الحلقة الأخيرة.
- البيان -
القاعدة التاسعة: الطريقة المثلى في معالجة
القضايا والأخطاء:
يلزم دارس التاريخ أن يدرس الظروف التي وقعت فيها أحداثه، والحالة
النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي اكتنفت تلك الأحداث، والأسباب التي دفعت
إلى ارتكاب الخطأ قبل أن يحكم عليه، حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب..
ونكتفي هنا بمثال واحد لبيان الطريقة المثالية في معالجة القضايا والأخطاء، ألا
وهو موقف النبي-صلى الله عليه وسلم-من صنيع حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل
كتاباً مع امرأة من المشركين ليخبرهم بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، ومن هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ أو الحادث:
* المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ أو وقوع الحادث، وفي
هذا الحادث تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي.
* المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب
الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله-صلى الله عليه وسلم-لحاطب: «ما حملك
على ما صنعت؟» [1] ، وهذه المرحلة مهمة؛ لأنه إذا تبين بعد طرح هذا
السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ تنتهي القضية عند هذا الحد، وإذا
لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
* المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ ...
وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته،
وهذا الذي سلكه النبي-صلى الله عليه وسلم-مع حاطب حيث قال لعمر عندما
استأذن في قتل حاطب: «أليس من أهل بدر؟» ، ثم قال: «لعل الله قد اطلع
على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو غفرت لكم» [2] .
القاعدة العاشرة: الاستعانة بعلم الجرح والتعديل
للترجيح بين الروايات المتعارضة وبناء
الصورة التاريخية الصحيحة:
ينبغي الاستعانة بمنهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات، فهو الوسيلة
للترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنه خير معين في رفض بعض المتون
المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ صدر الإسلام.
وعلى هذا الأساس يتم اعتماد الروايات الصحيحة ثم الحسنة لبناء الصور
التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام، وعند التعارض يقدم
الأقوى دائماً، أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى فيمكن الإفادة منها في إكمال
الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة، على شرط أن تتماشى مع روح
المجتمع الإسلامي ولا تناقض جانباً عقدياً أو شرعياً، لأن القاعدة: «التشدد فيما
يتعلق بالعقيدة والشريعة» .
ومن ناحية ثانية، إذا كان أهل الحديث يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن
كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة، فلابأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في
التاريخ وجعله معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها، ومن هذا
المنطلق تتخذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل
سيف بن عمر الضبي والواقدي وأبي مخنف وغيرهم.. فما اتفق معها مما أورده
هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه ونبذناه.
القاعدة الحادية عشر: الرجوع إلى كتب السنة
كمصدر مهم لأخبار صدر الإسلام:
وكذلك من المفيد جداً في كتابة التاريخ الإسلامي الرجوع إلى كتب السنة إذ
هي مصدر موثوق وراجح لأخبار الصدر الأول، لوجود روايات تاريخية كثيرة
فيها على درجة عالية من الصحة، ونظراً لأن كتب الحديث خُدمتْ أكثر من كتب
التاريخ من قبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما
فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها كبار الحفاظ القدامى والدارسون
المعاصرون.
وتتضاعف كمية هذه الأخبار الموثوقة بالرجوع إلى كتب السنن والمسانيد
والمصنفات ومعاجم الصحابة، وكتب الفضائل والطبقات، والتواريخ التي صنفها
المحدثون، وكتابات العلماء الذين كانت لهم عناية بشرح كتب الحديث وذلك أن
ثقافتهم الحديثية الممحصة واقتباساتهم من كتب التاريخ المفقودة التي دونها المحدثون
الأولون، جعلت شروحهم غنية بنصوص تاريخية، فعلى سبيل المثال يعتبر كتاب
«فتح الباري، شرح صحيح البخاري» للحافظ ابن حجر مثلاً واضحاً لهذه الكتب
وهؤلاء العلماء، إذ يشمل من الفوائد التاريخية كمية لا يستهان بها.
القاعدة الثانية عشر: معرفة حدود الأخذ من كتب
أصحاب الأهواء والفرق:
من القواعد المهمة أيضاً معرفة الحدود التي تراعى عند الأخذ من كتب
أصحاب الأهواء من الفرق الضالة المبتدعة، إما استجابة لشهوة أو هوى أو بدعوى
التأويل المتعسف أو بالوقوع تحت تأثير الزندقة والكفر.
وقد اعتنى أهل السنة بضبط مذاهب الفرق وأقوالهم لتعرف أحوالهم ومواقفهم، ويكون المسلم على بيّنة منها فلا يخدع من قبلهم.
ولهذا الغرض أفرد بعضهم ذلك بمؤلفات خاصة مثل أبي الحسن الأشعري في
«مقالات الإسلاميين» ، وأبي الحسن الملطي في «التنبيه والرد على أهل
البدع» ، وابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» .
كما أن أصحاب الفرق أنفسهم قاموا بتدوين مذاهبهم ومعتقداتهم وأخبارهم
وتراجم رجالهم وعلمائهم ومناظراتهم وردودهم على المخالفين لهم ومنهم من اشتغل
بالتاريخ فقام بتدوين الأخبار وفقاً لمعتقده الخاص أو مذهبه السياسي، فأظهر مثالب
خصومه وأخفى محاسنهم.
ولأجل هذا لابد للمؤرخ المسلم من التعرف على اتجاهات هؤلاء وعقائدهم،
لأن ذلك يمكنه من التعامل مع النصوص التي أوردوها بما يكون لديه من خلفية عن
اتجاهاتهم وآرائهم ومواقفهم، ثم يقارنها بغيرها عند المؤرخين أو العلماء العدول
الثقات.
وعلى ضوء المقابلة والمقارنة بين النصوص ينظر إلى تعصب الراوي من
عدمه؛ فمن لاحت عليه أمارات التحزب أو التحيز لنحلة أو طائفة أو مذهب لا
يؤخذ منه في هذه الحال، لأن الخصومة والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة
أما من لا يلحظ عليه التعصب وإن كان من أهل البدع وكان صدوقاً في نفسه
معروفاً بالورع والتقوى والضبط، فتقبل روايته، فقد أخرج بعض الأئمة لنفر من
أهل البدع الذين لا يكذبون، فهذا الإمام البخاري أخرج في صحيحه لعمران بن
حطان الخارجي رغم أنه من كبار الدعاة إلى بدعة الخوارج، لكنه عرف بالورع
والتقوى وأنه لا يكذب.
وقد يجد الباحث في ثنايا الأخبار التي يرويها أهل البدع عن أهل طائفتهم
ومذهبهم ما يمكن أن يكون حجة عليهم وبمثابة الإقرار منهم كحكايتهم لبعض الأقوال
المتضاربة والمعتلة.
القاعدة الثالثة عشر: معرفة ضوابط الأخذ
من كتب غير المسلمين:
إذا كان للتاريخ الإسلامي قواعد وأصول وضوابط شرعية يجب على المؤرخ
المسلم أن يلتزم بها، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها، فذلك يعني الاحتياط عند
الأخذ من كتب غير المسلمين، خصوصاً وأن الحرية بلا قيود وبلا ضوابط تلقاها
العلمانيون في الغرب أو في الشرق وطبقوها على التاريخ الإسلامي بمفاهيمها
المحلية عندهم.
هذا مع الفرق الشاسع بين المنهج العلماني والمنهج الإسلامي بسبب الاختلاف
في التصورات والمفاهيم والمبادئ إذ المنهج جزء من التصور مما جعل نتائج
أبحاثهم ودراساتهم مناقضة للأحكام الإسلامية وواقع المجتمع الإسلامي؛ لهذا فإن
القضايا التي تطرحها كتب غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، التي تعالج
التاريخ الإسلامي خصوصاً الصدر الإسلامي الأول ينبغي أن تدرس بعناية وحذر
شديدين، لأنهم لا يصدقون في كثير مما يقولونه عن الإسلام ونظمه ورجاله، ولا
يحل وفق ذلك للمسلم أن يروي عنهم أو يأخذ منهم، لاسيما وأن من شروط البحث
في هذه القضايا عرض الأقوال والأعمال على كتاب الله وسنة رسوله.
على أن غير المسلمين ليس لديهم من الموانع عن الكذب ما لدى المسلمين،
وبالتالي فهم لا يعرفون هذه الموانع، لأنهم لا يجدونها في مجتمعاتهم وبيئاتهم
والإنسان وليد بيئته وذلك لغلبة التيار المادي عليها وما ينتج عنه من تنافس
وصراعات دائمة. وحيث انطلقوا من واقعهم هذا للحكم على غيرهم بنفس المنظار، وقعوا في الخطأ وعمموا الأحكام وشوهوا التاريخ.
ثم إذا كان علماء الإسلام لا يثبتون الأحكام بما يرويه المسلم ضعيف الضبط،
فكيف يحق لقوم مؤمنين أن يحملوا عن كافر ساقط العدالة! بل ويضمر من الحقد
والبغضاء لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله.
القاعدة الرابعة عشر: مراعاة ظروف العصر
الذي وقعت فيه الحادثة:
ينبغي أن نعلم أن بعض تلك الحوادث الواقعة في صدر الإسلام لا يبررها
غير ظروفها التي وقعت فيها، فلا نحكم عليها بالعقلية أو الظروف التي نعيش فيها
نحن أو بأي ظروف يعيش فيها غير أصحاب تلك الحوادث، لأن الحكم حينئذ لن
يستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي تكون نظرة الحاكم إلى هذه الوقائع لم
تستكمل وسائل الحكم الصحيح، فيصدر الحكم غير مطابق للواقع.
ومن الملاحظ أن الخلط بين الواقع المأساوي الذي يعيشه المسلمون في هذا
العصر وبين واقع المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، يرجع إلى الخطأ في الفهم
الناتج في الغالب عن الصورة القاتمة والمغرضة التي يتلقاها النشء عن تاريخ
الإسلام وحضارته بواسطة المناهج المنحرفة والفلسفات الوضعية التي تعمم الأحكام
وتشوه بذلك التاريخ.
ولا شك أن مصدر الخطأ في هذه المناهج والفلسفات هو تدخل أصحابها
بالتفسير الخاطئ للحوادث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون
فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس
وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها.. أو بعبارة أخرى:
إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على
العصور السابقة، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي تسمى في منهج البحث
العلمي «روح العصر» .
وبناء على ذلك يمكن القول إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا
الطريق هو القياس الفاسد، إذ أنه من الخطأ لإنسان يعيش في هذا العصر عصر
الأثرة والأنانية، وتقديم المصلحة الشخصية على مصلحة الأمة، وعدم الاعتزاز
بالأخلاق والمثل والمبادئ، أن يقيس هذا العصر على عصر صدر الإسلام، عصر
تقدير المسؤولية، ومراقبة الله جل وعلا في السر والعلن وبذل النفس والمال في
سبيل المصلحة العامة للأمة.
فمادمنا في عصر تغلب فيه الصراعات السياسية والاقتصادية والتكتلات
الحزبية النفعية، فقد قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع بظلاله القاتمة وسلبياته على ذلك
العصر الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الناس فيه،
وسبب ذلك أن الكتابة التاريخية المعاصرة اصطبغت إلا النزر اليسير بالمنهج
المادي الغربي الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته، تلك البيئة التي تتمرغ في أوحال
المادية، وتعاني من مرارة الصراع النفعي، ولا تؤمن بما يسمى بالقيم والمبادئ
لكنها تؤمن بما يسمى بالمصالح، ثم فوق ذلك كله هي غارقة إلى أذنيها في النظرة
المتعصبة الحاقدة على الإسلام.
القاعدة الخامسة عشر استعمال المصطلحات الإسلامية:
تعد قضية المصطلحات من أشد العناصر أثراً وأهمية وخطورة في ثقافة
الشعوب لأنه عن طريقها يتم تثبيت المفاهيم والأفكار.
والمصطلح كلمة أو كلمتان، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة لكن هذه
الكلمة قادرة على تحويل التفكير من وجهة إلى نقيضها، بل قادرة على أن تفقد
الإنسان التفكير أصلاً.
ولأن المصطلحات بهذا القدر من الأهمية، فإنه منذ أن تقرر في أوكار
الصهيونية والصليبية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون
على تخريب الفكر الإسلامي، وتشويه العقل المسلم من باب المصطلحات والمفاهيم.
فقد كان من تأثير الغزو الثقافي الأوربي للمسلمين أن شاعت بينهم مصطلحات
ومفاهيم غريبة عن عقيدتهم وثقافتهم حتى كادت أن تختفي المصطلحات
الإسلامية.. على أن هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي الباحثين المعاصرين بأن المصطلحات الحديثة إنما تنبثق من رؤية خاصة للفكر الغربي فهي ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك، فالمثقفون في العالم الإسلامي كانوا إلى مشارف الخمسينيات لا يدركون أن المصطلح جزء لا يتجزأ من التركيبة أو البنية الحضارية لأي مجتمع وكانوا في حالة الدفاع عن الذات يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في المدنية الغربية مثيله في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تعير بالاً للارتباط الوثيق الذي يوجد بين المصطلحات والعقائد والأفكار المنبثقة من واقع مجتمع معين.
ولنذكر على سبيل المثال مصطلح اليمين واليسار، فقد نشأ هذا المصطلح
خلال الثورة الفرنسية، وذلك في اجتماع الجمعية التأسيسية المنعقدة بتاريخ الحادي
عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام تسع وثمانين وسبعمائة وألف ميلادية، حيث
جلس الأشراف ومؤيدو النظام الملكي على يمين الرئيس وجلس خصومهم أنصار
الثورة على يساره، حتى أصبحت قاعدة تستخدم لتصنيف الفكر السياسي [3] .
ومما لا شك فيه أن هذه الخلفية التاريخية تركت بصماتها على التعريف إلا
أنه في عصرنا هذا أصبحت كلمتا اليمين واليسار تعبيرين مطاطيين يختلف
مدلولهما حسب الدولة والمراحل التاريخية: فاليسار في دولة ما يعتبر يميناً في دولة
أخرى.
ورغم أن تصنيفات اليمين واليسار لعبة صهيونية [4] ، إلا أن بعض الباحثين
مع الأسف وظفوها بصورة آلية، حتى أن بعضهم ألفوا كتباً يصنفون فيها الصحابة
رضي الله عنهم إلى يمين ويسار، وأن قمة الصراع الطبقي في زعمهم كانت بين
زعيم اليمين معاوية بن أبي سفيان وزعيم اليسار علي بن أبي طالب، والتاريخ
الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن يسار ويمين فالمعتزلة يسار والأشاعرة يمين، والفلسفة العقلانية الطبيعية عند ابن رشد يسار، والفلسفة الإشراقية الفيضية عند
الفارابي وابن سينا يمين والمالكية الذين يقولون بالمصالح المرسلة يسار، والفقه
الافتراضي عند الحنفية يمين، والتفسير بالمعقول يسار، والتفسير بالمأثور
يمين [5] ، إلى غير ذلك من التصنيفات الغريبة.
إنه يجب الحذر من التقليد الأعمى، إذ يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي
الغربي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة وينبغي
استعمال المصطلحات الإسلامية، لأنها ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير
شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث.. فالقرآن الكريم قسم الناس إلى:
«المؤمن» و «الكافر» و «المنافق» ، ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة
ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها.
فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير
إسلامية كوصف الإنسان بأنه يميني أو يساري أو غير ذلك من النعوت غير
الشرعية والتي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال
والمنجزات التاريخية والحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي
«الخير» و «الشر» و «الحق» و «الباطل» و «العدل»
و «الظلم» ، كما جاءت محددة في القرآن والسنة، ولا تستخدم معايير
الفكر الغربي كالتقدمية والرجعية.. [6] . ...
وقد تابع الباحثون العرب الغربيين في كل شيء حتى في المصطلحات ذات
العلاقة بالتوزيع الجغرافي والتوزيع التاريخي التي لا صلة لها بواقعهم أو تاريخهم،
ففي إطار التوزيع الجغرافي وضع الغربيون مصطلحات الشرق الأدنى والشرق
الأوسط والشرق الأقصى، وهي مصطلحات يستعملها العرب اليوم بلا بصيرة؛
وذلك لأن المستعمر الأوربي اعتبر نفسه في مركز الأرض فأطلق هذا التوزيع
بالنسبة لموقعه.
وكذلك التوزيع التاريخي مثل العصور القديمة والعصور الوسطى والعصور
الحديثة، فهذا التوزيع يتميز بمراحل وتقلبات تاريخية عاشتها أوربا مما يجعل لكل
فترة من هذه الفترات خصائص ومفاهيم مستقلة تبعاً للتطورات والانقلابات الفكرية
والعقائدية التي عاشتها أوربا في كل حقبة من هذه الحقب: فالعصور القديمة تميزت
بالوثنيات الإغريقية والرومانية، ثم جاءت العصور الوسطى فعرفت هيمنة الكنيسة
وتسلط البابوية، بينما كان من سمات العصور الحديثة ظهور النظم العلمانية والدول
الحديثة.. أما التاريخ الإسلامي بما فيه تاريخ الأنبياء فهو وحدة واحدة بالنظر إلى
المفاهيم والمبادئ السائدة فيه التي لا تتبدل تبعاً لتبدل الزمان والدول والحكام؛ لأنه
تاريخ أمة ذات عقيدة واحدة ثابتة لا يطرأ عليها التغيير، ولذلك ليس بلازم أخذ هذا
التوزيع الأوربي ولا متابعتهم عليه؛ لأنه يفتت تاريخنا ويوجد الحواجز بين
عصوره.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أدعو الباحثين والمؤرخين المسلمين إلى تقديم
دراسات مفصلة تكشف عن حقائق التاريخ الإسلامي، وصياغة منهج نقدي تعامل
وفقه الروايات التاريخية، والمساهمة في تصحيح الأفكار والمفاهيم والعودة بالنشء
إلى المنابع الصافية في الكتاب والسنة؛ لأن تاريخ هذه الأمة بمثابة عرضها
وشرفها، إذ هو القناة التي أوصلت لنا هذا الدين جملة وتفصيلاً وبقدر ما تتلوث
القناة يتلوث المنقول خلالها.
ومن الواضح أن إبراز المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ، وتدوين قواعده،
وبيان ركائزه ومنطلقاته، والالتزام به من أهم وسائل التصحيح المنشود في هذا
السبيل، وأن هذا الالتزام يعد ضرورة علمية، ووظيفة شرعية وحاجة إنسانية
والإخلال بها إخلال بموازين العلم الصحيحة وبالأحكام الشرعية، كما يسبب ذلك
نقصاً كبيراً في الدراسة وتشويهاً للوقائع التاريخية بل يسبب انحرافاً خطيراً في
التفسير والفهم والسلوك تجاه الأحداث.
ومن ثم أصبح فرضاً على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن
يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع إلى أن يكون
أمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويحددون عهده ويصلحون
سيرتهم بصلاح وكمال سيرته.
ولأجل ذلك، لابد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام
إسلامية تؤمن بالله ورسوله، وتحب صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، مع
إحساس بدور الإسلام في الحياة، كما تحس بدور القدوة الصالحة للخلافة الراشدة
في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، لاسيما وأن تاريخ الخلفاء الراشدين اختص
بصفات تميز بها الخلفاء في سلوكهم الذاتي، وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم
لدينها وعقيدتها، وحفاظهم على المنهج الذي جاء به رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-من الدعوة والجهاد وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك
صار عصرهم مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً ينبغي أن نسعى إلى
محاولة الوصول إليه، وجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة الصالحة للأجيال
الإسلامية في هذا العصر.