خواطر في الدعوة
محمد العبدة
جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-قام فخطب الناس، (فقال: لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس
إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، فقال رجل: يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ساعة ثم قال: كيف قلت، قال: قلت
يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله: إن الخير لا يأتي إلا بخير،
أوَ خيرٌ هو؟ إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يَلُم ... ) [1] ، أراد رسول
الله-صلى الله عليه وسلم-أن يحذر المسلمين من فتنة المال، وهي فتنة كبيرة، إلا
من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فالمال خير، كما سماه الله سبحانه وتعالى في
القرآن، ولكن الحريص عليه والشره في جمعه هو الذي يهلك، كما أن نبات الربيع
خير ولكن الحيوان الذي يأكل بصورة خاطئة هو الذي يُصاب بالتخمة (ويقتل
حبطاً) فالمشكلة في طريقة تناول الخير، وطريقة أخذ الأشياء بقواعدها وأصولها
السليمة إن العلم خير، ولكن إذا أُخذ كمعلومات للتكديس، ولم يتحول إلى ما ينفع
الناس في الدنيا والآخرة، ولم يتحول إلى أداة لتغيير واقع المسلمين المحزن، فإنه
سيكون وبالاً على أصحابه، وقد قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل: يا
هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمن تقاتل؟ !
والعلم خير، ولكن ما الفائدة من تسويد مئات بل ألوف الصفحات حول مشكلة
انتهت ومضى عهدها، وليس لها وجود في واقعنا اليوم، وما الفائدة من تأليف
عشرات الكتب في موضوع واحد دون إضافة جديدة، أو إبداع يستحق القراءة، بل
يتهالك بعضهم على التأليف، وتأتيهم شهوة الكتابة عندما يرى مؤلفاً ناجحاً فينسج
على منواله تقليداً بحتاً، يلفقه من هنا وهناك دون عناء أو تعب، ورغم أن كمية
المقروء في العالم الإسلامي (6ر3) كيلوغرام مقابل سبعين كيلوغرام للفرد في
الغرب، وكمية المطبوعات (29) عنواناً لكل مليون من السكان في العالم العربي
مقابل (488) عنواناً في العالم الذي يسمونه متقدماً، كما جاء في إحصائيات
اليونسكو، رغم هذا الكم القليل فإن المشكلة في مضمون هذا القليل وضحالته،
فالأمية الثقافية ضاربة أطنابها، وطرق التعليم ووسائل التنفيذ لم تؤهل الفرد ليبدأ
طريق العلم الصحيح، وقد وصلتني أخيراً رسالة من صديق يشكو هذا الكم من
الكتب التي عناؤها قليل ويذكر أمثلة على ذلك «الأحوال المطلوبة في رؤية
المخطوبة» و «فصل الخطاب في رؤية الخطاب» ... الخ.
لم يؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية تفسيراً كاملاً للقرآن، لأنه لا يريد أن يكرر
شيئاً قد كُتب عنه، مع أن التفسير كان أحب علم لديه كما يذكر هو عن نفسه،
ولذلك علق واستدرك على تفسير بعض الآيات والسور التي رأى أنها بحاجة إلى
زيادة بيان، إن العلم خير، ولكن كثرة التعريفات والاختلافات وكثرة الردود
والمهابشات العلمية، مما يربك أذهان الناس ويجعلهم في حيرة من أمرهم،
وبخاصة ذلك الناشئ المقبل على الله، والمقبل على الدعوة، ولهذا كتب ابن
الجوزي (تلبيس إبليس) حتى لا يُخدع طلبة العلم، وتصيبهم آفات الطلب والتأليف.