مجله البيان (صفحة 1600)

قراءة فى فكر د. زكى نجيب محمود (2)

في دائرة الضوء

قراءة في فكر د/ زكي نجيب محمود

(?)

د.نعمان السامرائي

تمهيد:

في العدد الماضي عرفنا من هو د/ زكي نجيب محمود وتحدث الكاتب عن نظريته الفكرية ومفهومه للتقدم وتأثره بفلاسفة الفكر الغربي، ونواصل معاً قراءة بقية المقال.

-البيان-

ما هي الحضارة؟

إن الحضارة كما أعلم مجموعة أشياء: عقائد، أفكار، نظم أشياء مادية ...

إلخ.

ولذا فمن الجائز أن يتقدم جانب، ويتوقف آخر، ويتخلف ثالث فالحضارة

ليست هيكلاً عضويا، إما أن يتقدم كله أو يتخلف كله.

عرّف «تايلر» الحضارة بأنها: «ذلك الكيان المعقد الذي يضم المعرفة

والمعتقدات والفنون والآداب والقوانين والعادات، وجميع القدرات والتقاليد الأخرى

التي يكسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع» . [1]

لقد نسي الدكتور «زكي» ما قرره قبل قليل من أن الإنسان العربي له رغبة

في التسامي على دنيا الحوادث المتغيرة، لياذاً بالثابت ليحتمي به [2] .

كذلك نسي ما سبق أن قرره من وجود إله خالق، وإنسان مكلف مخلوق يحقق

في سلوكه قيماً أخلاقية محددة، أُمليت عليه، ولم تكن من اختياره وليس من حقه

أن ينسخ بعضها أو يضيف إليها ما يناقضها. [3]

سؤال كبير:

ماذا يبقى من الأصالة إذا طرحنا الماضي كله، وحكمنا بأن الحاضر أفضل

منه؟

لقد كنا سادة نصنع الحضارة، ونقود العالم نحو الإيمان والتحضر، ثم جاءت

قرون فصرنا في ذيل القافلة، نستهلك حضارة، ولا نقوم بمساهمة فهل نعتبر

الماضي القريب أفضل لأنه قريب؟ ؟

لقد كان سكان العراق في العهد العباسي الأول وشطرٍ من الثاني ينوفون على

الثلاثين مليوناً، قل أن تجد بينهم أمي، ثم صار العدد ثلاثة ملايين في مطلع القرن

العشرين الميلادي، وصارت نسبة الأميين أكثر من 80 % فأيهما أفضل؟

يقول «ديورانت» : إن مكتبة الصاحب (ابن عباد) الشخصية، كانت تحوي

من الكتب أكثر مما تحويه جميع المكتبات العامة في أوروبا في ذلك الوقت، فهل

يؤمن الدكتور بتقدمية الحاضر ورجعية الماضى؟ ؟

طرح للمسألة:

لديّ طرح لمسألة «الأصالة والمعاصرة» ربما أعجب تلاميذ د/ زكي ومن

يهتم بالموضوع. فالإنسان حين خلقه الله تعالى حدد له هدفين كبيرين:

1- أن يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئا، [وما خلقت الجن والإنس إلا

ليعبدون] . [4]

2- أن يساهم في عمارة الأرض [ ... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم

فيها] . [5]

العبادة:

والعبادة تأتي على معنيين: عام وخاص، فالعبادة بمعناها العام: أن يعمل

الإنسان «المشروعات» يبتغي بذلك وجه الله، فمن اشتغل بالطب، أو الصيدلة،

أو الكيمياء، أو علوم الحياة أو غيرها، يبتغي بعمله وجه الله تعالى هو في عبادة،

وقد نقل عن أكثر من واحد من علماء المسلمين: إن الاشتغال بالعلم أفضل من

صلاة النافلة.

أما المعنى الخاص للعبادة فيشمل الصلاة والصيام والحج والزكاة.

والأصل في العبادة: النص الصحيح، وليس من حق أحد أن يزيد أو ينتقص

منها، حتى لقد نقل أن شخصاً أخبر ابن مسعود أن جماعةً تجتمع في المسجد،

يذكرون الله ذكراً «جماعياً» ، فطلب إليه إذا اجتمعوا أن يخبره، فلما اجتمعوا

خرج إليهم مسرعاً غاضباً، فلما وقف عليهم قال: (والله الذي لا إله غيره، لقد

جئتم ببدعة ظلماً، ثم راح يسأل باستنكار: هل فَضلتم أصحاب محمد

علماً؟) . [6]

وحين سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن بعض أصحابه يلزمون

أنفسهم بالصيام وبعضهم بقيام الليل، وبعضهم بهجر النساء، استهجن ذلك، وقال:

إنه يصوم ويفطر، يقوم الليل وينام، ويقرب النساء، ثم عقب على ذلك بقوله:

(فمن رغب عن سنتي فليس مني) . [7]

ومن القواعد في هذا الصدد (مبنى العبادة على الحظر) أي المنع، فلا أحد

يملك إنشاء عبادة، أو التصرف فيها، وفي هذا الصدد نفهم كلمة الإمام علي: (لو

كان الدين بالعقل لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره) ، والدين هنا العبادة.

ففي ميدان العبادة يكون المسلم متبعاً، يبحث عن صحة «النص» ثم يؤدي

المطلوب، كما ورد في النص، وفي حدود الفهم السليم.

عمارة الأرض:

أما عمارة الأرض فالذي أفهمه هو إقامة الحضارة، وهذا يتطلب معرفة جيدة

بعلوم العصر، حتى قال علماؤنا: إنه متى وجد علم أو صنعة، ولم يوجد في

المسلمين من يعرفها أو يمارسها، فالأمة كلها آثمة.

ومن حق الدولة أن تعين أشخاصا لهذه المهام، وعندها يصبح الأمر بالنسبة

لهم من فروض العين، يقول الدكتور الدريني: [8] ( ... وتتجه المسئولية الخاصة

شرعاً، إلى المتخصصين من ذوي الكفاءات، وأرباب الخبرة إذا احتاجت الأمة

إلى صناعاتهم وخدماتهم، وكانت مصلحتها العامة لا تتم إلا بذلك.

ولا يعفيهم من المسؤولية، أنهم أحرار فيما يملكون، وفيما يتصرفون لأن

حريتهم وحقوقهم مقيدة بمراعاة مقتضيات الصالح العام، تكافلاً ملزماً فيجبرون

عليها؛ لأنها من الفروض العامة، واجبة الأداء) .

وجل هذه العلوم لا هوية لها، كالطب والهندسة والصناعة وعلوم الأحياء.

وهذه العلوم وأمثالها متطورة متبدلة، نرى في كل يوم فيها جديداً، فهنا

تتجلى «الحداثة» بأجلى مظاهرها، وفي العبادة والعقيدة تتمثل الأصالة بكل

أبعادها.

دائرتان:

فهناك إذن دائرتان: واحدة للحداثة وأخرى للأصالة، والعلاقة بينهما ليست

قائمة على التناقض والصراع، بل لكل ميدانه الخاص، وقد سقطت الكنيسة في

خطأ قاتل، حين جاءت إلى بعض العلوم من دائرة «الحداثة» فقامت بوضعها في

دائرة «الأصالة» ومنعت من مناقشتها أو التشكيك في صدقها، فلما قامت بواكير

النهضة، تبين للعلماء أن ما يعرف بـ «علوم الكتاب المقدس» علوم غير

صحيحة وغير سليمة؛ لأنها كانت موروثات يونانية ولم تكن من علوم الأصالة،

تذكر الكاتبة الألمانية «زغريد هونكه» [9] : إن القسس كانوا يلعنون كل من قال

بكروية الأرض، ومن تقبل التعليل بأسباب طبيعية لفيضان أو بزوغ كوكب، أو

شفاء قدم مكسور ... الخ.

وقد دفع «غاليليو» حياته ثمنا لقوله بكروية الأرض، ودورانها حول

الشمس وهناك اليوم حركة تطالب بإعادة محاكمته من جديد.

وقد اخترع رئيس بلدية في ألمانيا مصباحاً يعمل بالنفط، فحكمت الكنيسة

بكفره بحجة أن الله خلق الليل مظلماً والنهار منيراً، وهذا الرجل يبدل في خلق الله، فيجعل الليل كالنهار.

وجل من عرض على «محاكم التفتيش» السيئة السمعة، وكان متهماً بالكفر

أو الزندقة فهو ممن أنكر بعض «خرافات» الكنيسة.

وبالمثل حاولت الفلسفة في الجانب «الميتافيزيقي» الحديث عن الله تعالى

وصفاته واليوم الآخر، فلم تفلح في شيء، فما يقوله الأستاذ ينقضه تلاميذه ذلك أن

علوم الغيب وصفات الله تعالى، لا ينبغي أن تؤخذ إلا من الخبر الصحيح.

فإذا قلنا مع الدكتور محمد عمارة: [10] «بأن المقدسات، والقيم والسمات

الحضارية، المميزة للأمة، من» الأصالة «، وأن سبل النهضة والقوة وأشكال

العمران وعلومه من» الحداثة «، نكون قد وقفنا على منهج جديد سديد يسمح

للثوابت بالبقاء، وللمستجدات بالتغيير، وبذلك نحفظ كياننا من الذوبان والجمود في

وقت واحد، فلا نقول: بأن كل ما لدينا من» الثوابت «كما قالت الكنيسة ولا بأن

كل شيء متغير متطور كما تقول حضارة اليوم بل هناك ثوابت، تتمثل في العقيدة

والعبادة، والأحوال الشخصية، والحدود.

ومتغيرات تتمثل بالتعازير، والنظام السياسي، والإداري، وما بني على

العرف والعادة والمصلحة، وسائر العلوم التجريبية، دون فلسفتها.

فالقسم الأول يمثل الأصالة والقسم الثاني يمثل الحداثة، والخلط بينهما وبين

مفرداتهما مرفوض.

نحن والعبادة والعمارة:

قد مضت علينا قرون، ونحن نعمل في الميدانين دون خلط ولا خبط فلما جاء

الإستعمار وتلاميذه وحاولوا إسقاط الأصالة، ومسح مفرداتها، جاء رد الفعل من

الكثير معاكساً، فأنكروا» الحداثة «ومفرداتها.. ذاك مغرب وهذا مشرق فمتى

يلتقيان؟ ؟

ومع مرور أكثر من قرن فمازال الخبط والخلط، مازال هناك من» يقدس «

الماضي بكل سلبياته وإيجابياته، وهناك من يريد أن يهيل عليه التراب كله بكامله،

واستبداله بغيره.

ومعلوم أن الأمم لا تترك ماضيها، كما يخلع الفرد ملابسه أو يبيع داره.

والكثير من المفكرين والكتاب، لا يريد أن يفهم هذه القضية، ولا الحدود

الفاصلة، فيبقى طوال عمره، يضرب في حديد بارد، ثم ينتهي به الأمر إلى يأس

قاتل فيرمي الأمة بالعقوق أو الجمود أو التسيب.

ومن يرد العمل في ميدان» التغيير «فعليه أن يقرأ تاريخ العالم أولا ويدقق

في التحولات الكبرى، ليفرق بين الممكن والمستحيل في هذا الميدان.

ولسنا بدعاً في الأمم، وليس ثمة استثناء لأحد من سنن الله، فمن يجمد

ويتشنج، يتخطاه الركب، ومن يقبل كل تغيير وتبديل، لا تبقى له» هوية «ولا

يكون إلا قمراً صغيرا، يدور في فلك غيره، من لا يصدق هذا فليدرس النموذج

» التركي «في التغيير والحداثة، والنموذج الياباني في الأصالة، ثم ليفعل ما يشاء،

ويقرر ما يريد ...

لقد بحت منا الأصوات، وحفيت منا الأقدام، ومع ذلك مازلنا نقبع في مكاننا، ويبدو أن ثمة» مهيجين ومحرشين «كلما هدأت» النار «تطوع من ينفخ فيها،

ويقدم لها الوقود ...

فهل يعجب تلامذة الدكتور زكي هذا الطرح؟ وهل من جديد في الجيوب

والجعب؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015