مجله البيان (صفحة 1484)

مقدمة فى بناء الرواية (2)

البيان الأدبي

مقدمة في بناء الرواية

(القسم الثاني) [*]

د.مصطفى بكري السيّد

-4-

لا يأتي الباحث بدعاً من الرأي إن قال بأولوية زمانية وفنية للقصة القرآنية

بوصفها الجذر الفني الذي استولدت منه القصة الحديثة سواء في الشرق أو الغرب،

ولا بأس أن نردد مع إحدى الدراسات قولها: (يبدو أنه قد آن الأوان لكي نقول أن

القصة القديمة أشد ظهوراً في القرآن الكريم منها في أي موضع آخر) [1] .

ولئن سبقت قصة التوراة قصص القرآن، فإن التحريف الذي أملته أهواء

أهل الكتاب جعلت العقول المؤمنة تمجّ القصص التوراتية لما (فيها من مخالفة قواعد

العلم، وقوانين التربية، وهي تذكر الله ورسله بما يأباه العقل وتشمئز منه النفس،

وماذا أكثر من أن يوصف الله بالندم والبداء (أي تبدو له الأمور وكأنه يجهلها،

والظهور بصور البشر - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - وأن يوصف الرسل

بالكذب والسكر والزنا) [2] .

كما نجد في القصص التوراتي (هيجاناً جنسياً لا يتورع عن استباحة أخس

الوسائل لتحقيق الاتصال الفاجر حتى بين النبي وابنيته كما يزعم (سفر الخروج)

في شأن لوط، وكالذي يطالعنا في بعض تلك الأسفار عن اتهام داود، باقتراف أحط

الجرائم في سبيل السطو على زوجة أحد رجاله) [3] .

ماذا ترك التحريف في الكتاب المقدس (للأدب اليوناني الذي يعد المنبع الأول

للأدب في شطريه الإباحي والوثني؟

وما هي العلاقة بين القصة الأوربية - بوصفها أصدق امتداد مضموني

للإباحية والوثنية - والكتاب (المقدس) (*) في وضعه الحالي المحرف؟ إن هذا

التساؤل يذكر بقالة قرأتها لبعض علماء المسلمين في تنظير العلاقة بين أوربا ودعوة

المسيح -عليه السلام- (إن أوربا لم تتنصّر، ولكن المسيحية تأوربت) .

وأياً كان الرأي المضاد لهذه الأولية - أي أولية القصة القرآنية الزمانية

والأسلوبية، إن كان من أهل النصفة - أن ينكر أن القصة القرآنية كانت بمضمونها

وأسلوبها؛ ولا تزال نقطة مضيئة في مسيرة هذا الفن، وأنها في الشكل والأسلوب

لم تكن عبر الحروب الصليبية في المشرق والأندلس غائبة عن التأثير والتأسيس

لهذا الفن في الأدب العربي.

- 5 -

وليس غريباً أن تتقدم قصة موسى -عليه السلام- سائر القصص القرآني

سواء لجهة المكان الذي شغلته من صفحات المصحف الشريف، أو المكانة التي

تبوأتها عند العلماء، أو لخطورة الفئتين اللتين واجههما موسى حيث كانت إحداهما

فئة ممعنة في التكبر والطغيان (فرعون وملؤه) وأخرى استمرأت الذل والتبعة

والاستضعاف (بنو إسرائيل) [4] .

هذه القصة وإن كانت تتمحور حول حدث من الماضي، فهي قادرة على

تحريك الزمن، ومن ثَمَّ الملتقى في كل اتجاه، بوصفها بنية عقدية تشريعية،

تربوية، تاريخية، زمانية، مكانية، أداتها اللغة، وقراؤها لأداء العبادة في الصلاة

والتلاوة تعلماً وتعليماً، يعدون بمئات الملايين، فمن حق هؤلاء أن تكون بين أيديهم

قراءة واعية وعميقة للقصص القرآني عموماً، وقصة موسى - عليه السلام - على

وجه الخصوص، بحيث تضاعف هذه القراءة - الدراسة - فهم المسلم وغيره

لمقروئه، لأنها ليست قصة فرد أو قصة أمة (بل قصة البشرية جميعاً) [5] .

فالمسلم يدرك بتأمل القصص القرآني عموماً أنه سليل أمة متميزة بعقيدتها

ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، قادتها الأنبياء، وهويتها العقيدة، [إنَّ هَذِهِ

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء 92] ، [وإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً

وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] [المؤمنون 52] ، ويدرك خصوصاً أوجه الشبه بين دعوة

رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخيه موسى - عليه السلام -[6] ، فيعلم

ديمومة المعركة، وأن شرف الجندية لخدمة هذه الدعوة المباركة من أعظم ما

صرفت فيه الأعمار [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي

مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت 33] .

أين كتاب وأدباء المسلمين من دراسة القصة القرآنية التي يجب أن تتم ابتغاء

تحقيق أكبر محصول عملي من قراءة المسلم القرآن وصولاً إلى الفهم الحقيقي

الشامل لخطاب الله -عز وجل-، وتأسيساً لمعرفة قرآنية إسلامية تعطي النص

الإسلامي دوره المطلوب في تشكيل القول والفعل والقول في دار الإسلام؟ ...

إنني أكتب هذا الكلام (لأذكر بأن رسالة الأدباء والمفكرين في هذه المرحلة في

بلادنا ليست هي دور (المَوالي) (بفتح الميم) لثقافة وآداب وصيغ وشعارات أوربا

شرقاً وغرباً) [7] . وكم يؤلمنا عندما يتشبه قلة من كتابنا (بالمستشرقين والملاحدة)

فيستشهدون بالآيات الكريمة من غير اعتبار خاص ويشيرون إلى الرسول - صلى

الله عليه وسلم - من غير تمييز [8] . إن دورهم الحقيقي يكون في انسجام إبداعهم

الأدبي مع عقيدة الأمة وتجربتها العميقة ورحلتها الطويلة، ولكننا نلاحظ بعض

الغياب بين الدراسات القرآنية والدراسات الأدبية، التي كانت سالكة في الاتجاهين،

وكانت خيراً عميماً للجانبين، أما الآن فإذا تقدمت كمَاً تراجعت كيفاً، وإذا برز

مفكرون متمكنون، نرى آراءهم تعْليباً جديداً لأفكار المعتزلة، وهم مستعدون على

أمتهم بالمناهج الغربية [9] .

إن هذا الغياب عن ساحة الدراسة الجادة للقصة القرآنية آثار تعجباً وتساؤلاً

لدى بعض الكتّاب فقال: (عجبت أن لم يلتفت إليها (القصة القرآنية) أحد من نقادنا

ثم ما لبثتُ أن قمعتُ هذا العجب، فمنذ متى يهتم نقادنا بديننا أو تراثنا؟ إنما كل

همهم أن يلووا ألسنتهم بلغة غير لغة بلادهم، وينسبوا أنفسهم إلى أدب غير أدبهم

وحسبنا الله ونعم الوكيل) [10] .

وإذا كان هذا موقف أكثر المعاصرين فإن مجهودات الأقدمين على جلالتها في

خدمة التفسير عموماً فقد حجب سحاب الإسرائيليات اللجب جماليات القصص

القرآني أحياناً كثيرة، كما تمحور كثير من دراسات السابقين حول المفردات

والتراكيب دون التمكن من تشييد فضاء واسع يتجلى في منظومة متكاملة تكون أكثر

عونا للقارئ لتمضي به نحو فَهْمٍ شامل وكامل للقصص القرآني، وبعضها كان

يجهد في غير عدو ويعمل في غير معمل، عندما (يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس

معهم بالبحث عن النملة، وهل هي ذكر أم أنثى، وعن الموضع الذي كانت فيه

مملكتها، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة.. ثم اسم النملة إي والله اسم

النملة) [11] .

لقد أدان ابن تيمية - رحمه الله - هذا الاتجاه - عند المفسرين - الذي يأتي

على حساب النص لا لحسابه فيقول: (لا خير فيما لم يذكره القرآن، كالبعض الذي

ضرب به موسى الغلام، والغلام الذي قتله الخضر ما اسمه..) [12] ...

يكفي القصص القرآنية فضلاً ومكانة اختيار الله -سبحانه وتعالى- لها لتكون

موضوع إحدى سور القرآن الكريم الطويلة [13] ، أو بعض موضوعات تلك السور، ولتكون صورة للوجود المثالي للإنسانية متمثلاً بالأنبياء ونموذجاً للعلاقة بين ...

الإنسان والكون وبارئه -سبحانه وتعالى-، وبياناً لمنهج العيش مع أفراد الأسرة

البشرية من مؤمنين وكافرين ومنافقين.

ويكفي هذه القصة أن تحمل إلينا صيحة أطلقتها نملة - نعم نملة - فكرة -

وأن هذه الصيحة تبالغ مسامع سليمان -عليه السلام-، لو أن قاصاً معاصراً -

غربياً على وجه الخصوص - أفسح للنملة في صفحات قصته مكاناً لسدت الأفق

إشادات النقاد بهذه اللفتة الإنسانية لهذا المخلوق الضعيف! ! [الَذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ

عِضِينَ] [الحجر 91] ما كان لهم أن يرتقوا إلى سمو القرآن وأفقه الرحب.

تتساءل إحدى دراسات الرواية العربية (كيف يمكن أن تنتظم العلاقة بين

السماء والأرض أو بين الله والإنسان، بحيث يمكن أن تسير الحياة في إيقاع منسجم

في جميع مراحل الحياة؟) [14] . إن وجودنا في هذا العالم وحياتنا فوق هذا

الكوكب من صنع [رَبُّنَا الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه 50] . وإن الله

سبحانه قد هيأ لهذا الإنسان - فضلاً منه ومنّة - كل أسباب العيش الرغيد والوجود

المتوازن، والقصة القرآنية باستعراضها النماذج المختلفة لما كان لينسج على

منوالها ما يكون ولما فات ليبني على منوالها ما هو آت.

لا ندعو إلى استعادة آلية للماضي، ولا إسقاطه على الحاضر دونما مراعاة

خصوصية كل عصر أو مصر، بل ما نريد أن نستحضره في كتابة الأدب وقراءته

ونقده جوهر الحياة التي يريدها القرآن.

ولعل في الأسطر السابقة إجابة على تساؤل الناقدة والدراسة المتعمقة..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015