محمد بن حامد الأحمري
هل من المناسب أن نكتب عن التعلم والقراءة في الوقت الذي يشهد العالم فيه
نهاية دولة مسلمة، وإلغائها من الأرض ودفن كل المعالم التي قد تشير إلى مكانها
في قادم الأزمان؟ تكتب صحف العدو على صدر صفحاتها (وداعاً البوسنة)
ويقولون عن خطة الغدر التي كتبها أوين وفانس: (لقد أصبحت حبراً علتى ورق)
على رغم كونها مأساة، فقد سلبت المسلمين أرضهم، ولكن تدهور الموقف فيما بعد
جعل المسلمين يتمنونها.
نكتب عن هذه القضية لأن الجهل أنشب مخالبه في عقول وقلوب المسلمين؛
في جامعاتهم ومدارسهم وكل مرافق حياتهم، حتى إذا أرادوا أن يهربوا من الجهل
فروا إلى الحصول على الشهادات فزادتهم عماية وضياعاً وغروراً بجهلهم. ولا بد
قبل الاهتمام بالمعرفة من الاعتراف بالجهل؛ وذلك بعرض بعض مظاهره عندنا.
إعادة سبب مصائبنا إلى البعد عن الدين والعلم - وهما في ثقافة المسلم
متلازمان - تفسير صحيح لما حل بنا، تفسير يقوله العدو والصديق، يقوله
الثعالبي عند خروجه من تونس، ويرى الحل في المدارس الشرعية، ويرى
أهميتها قبل القتال، ويرى ذلك محمد علي السنوسي عندما كان عائداً من الحجاز
في طريقه إلى تلمسان بالجزائر، وجد بلاده قد وقعت تحت أيدي الفرنسيين ولا
يستطيع العودة إليها فيبقى في برقة يعلم الناس ويحثهم على التعلم، ويتابع إنشاء
الزوايا السنوسية، ومن أهم أهدافها التعليم. ولمس هذا السبب كل من اتصل بهموم
الأمة وقضاياها من رجالها أو من أعدائها، فكتب الرحالة الغربيون وهم طلائع
الاستعمار؛ كتبوا بكل سخرية واستصغار عن الجهل وترسخه في بلاد المسلمين.
وكتبوا عن الخرافة والكرامات والقبور التي لها مكانة خاصة عند أصحاب المدن،
ويتعجب من إيمان بعض المسلمين بأن بعض القبور والمشاهد تحكم العالم وتهيمن
عليه وهكذا فرق السحرة وجيوش الخرافة.
الإعجاب المتناهي بالغريب والجهتل المتناهي به، جعل بعض المسلمين
يكتب إلى الحاكم الفاشي الإيطالي موسيليني يخاطبه بحامي حمى الإسلام والمسلمين، ولا نستغرب الذين قالوا أبشع من ذلك أو قالوا لن تتحرر فلسطين (حتى يرفرف
فوقها العلم الأحمر) فانضموا إلى حزب راكاح الشيوعي الصهيوني ليحرروا
فلسطين من الرأسماليين اليهود وليحكمها الشيوعيون اليهود بدماء الأعراب. أما في
البوادي فكان الحال أشنع فليس غريباً أن يقف أعراب سيناء مع الإنكليز ضد الثوار
المصريين مقابل الذهب الذي دفع لهم، ثم اكتشفوا وبعد مناصرة بريطانيا أن الذهب
الذي أعطي لهم كان مزيفاً (صفراً) .
وأعراب العراق كانوا يتلقون الأوراق التي تلقيها الطائرات البريطانية والتي
تحتوي تعليمات أو تحذيراً أو أوامر لهم، فيظنون أن الطائرة فيها ثقب ولذلك
يجمعون الأوراق ليعيدوها لهم لأنهم لا يقدرون على القراءة. وكانت الرسالة تصل
القرية فيمر بها صاحبها عدداً من القرى لا يجد من يقرأ له رسالته.
وهكذا آل مآل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال لهم فيما صح
عنه: (العلم فريضة على كل مسلم) [رواه ابن ماجه] ، وتحولت وسائل التعليم
والمدارس والجامعات في بلدان العالم الإسلامي إلى مواقع ينتشر فيها الجهل والتقليد، والعمل الإداري الروتيني، والسباق الساذج نحو الشهادات، وترك العلم الذي قيل
إنها أنشئت من أجله.
فقد أصبح التعليم وسيلة للعيش فقط، والتعلم طريق الشهادة التي تفتح باباً
للعيش، وأنىّ للمدرس الذي يحيا هذه الظروف حوله أن يخلص من هذه الكوابيس
إلا من رزقه الله إخلاصاً وهمة وحمية لدينه وأمته.
إن الجامعات الغربية التي على مثالها أنشئت ما نسميه جامعات في بلداننا تقوم
بدور آخر، لا أقول كل جامعاتهم ولكن كثيراً منها يقوم بدور حيوي في حياة أمتهم، فتعلم الصناعات الكبرى تبدأ نظرية وتطبق أولاً في الجامعات، حيث يطلب
الجيش الأميركي أو الفرنسي تطويراً لجهاز ما ويتحدثون عن المشكلة الصناعية أو
الجهاز الذي يريدون مع أستاذ في الجامعة وسرعان ما يقوم المدرس وعدد من
تلاميذه وأكثرهم وللأسف من دول العالم الإسلامي بدراسة المشكلة وحلها، وما هو
إلا زمن يسير حتى تنتهي وتتحسن الصناعة وهكذا بقية الشركات وأغلب
المؤسسات العلمية العلم عندهم يعني العمل والتطبيق المباشر.
أما السياسة عندهم فهي علم يدرس في الجامعات، يدرّسه مهرة يعيشون في
موقع القرار في الدولة، أو عايشوا ذلك في الماضي، وهم على صلة قريبة جداً
بكل ما يحدث، وما تسمعه اليوم من خبر في وسيلة إعلام قد يكون موضع نقاش
ودرس وبحث عن السبب والحل في الجامعة والصحافة، لأنهم كما قالوا: سياستهم
علم وسياستنا كهانة.
إن الذي صاغ ورقة الحوار ونقاش السلام المصري -الإسرائيلي في عهد
السادات أستاذ في جامعة هارفارد، صاغه مع تلاميذه وقسمهم إلى فريقين كل منهم
مستوعب لقضيته يطالب بحقه، والمدرس وفريق معه يدرس عملية الصلح حتى إذا
تمت الدراسة ونجحت الفكرة طبقت على المتحاورين الإسرائيليين والمصريين، ولم
يجدوا صعوبة إلا مع الجانب الإسرائيلي؛ لأن (بيغن) لم يكن يقطع برأي حتى
يشاور حزبه والكنيست، أما السادات فيقول عنه (كارتر) إنه كان يعيد الأوراق
موقعة وبسرعة، حتى أن فريق السادات الذي كان معه لم يكن يقرأ أوراق المعاهدة
هكذا قال عنه كارتر في كتاب (دم إبراهيم) .
وهكذا بإمكاننا نقل الأسماء والمصطلحات والاشكال والطقوس الجامعية أو
البرلمانية، ولكن المضمون يبقى غريباً عنا فالجامعة عندنا مكان نحصل منه على
شهادة ولو كاذبة، والمدرس في أي المستويات بعد حصوله على الشهادة يطلّق العلم
طلاقاً بائناً، ويكرهه ويكره ذويه، ذلك أن مقتضى الترك له البعد والكراهة.
والبرلمانات مكانة اجتماعية يتسابق الناس لها وليس لها تبعات ولا اعتراضات بل
أدوات زينة وديكور بلا قرار، يندر فيهم الدارس الجاد لمشكلات أمته الباحث عن
الحلول، ولقد قالت زوجة بوش تصف زوجها يوماً: إنه رجل دراسة لما كان ينفق
من الوقت في قراءة ما يصله، وعندهم للأسف أمثلة من رجال السياسة والمعرفة ما
لا يوجد له قرين عندنا في زمن الانحدار، إذ لا يمكن أن يهدي أمته جاهل أو
ينتصر لها.
ولقد كان العلم دائماً رفيق الغلبة والجهل قرين الهزيمة، لم يكن بعيداً أن
ينتصر صلاح الدين وابن هبيرة يتنقل معه بعلمه وكتبه في الخيام من جبهة لأخرى، وليس غريباً أن ينتصر الشيخ شامل في داغستان على القياصرة ومعه مكتبته
تحمل على الخيول. ويلخص أحد المؤرخين الغربيين انتصارهم على المسلمين في
بداية المرحلة الاستعمارية علينا نحن المسلمين أن عندنا جهل وشجاعة وقصر نَفَس
وفساد نظام، وعندهم علم ومثابرة وجد متدرج فغلبوا. يقول: (يقهر علم الغرب
ومثابرته تدريجياً شجاعة أهل الشرق وفساد نظامهم) [1] . وبعد الإشارة إلى هذه
المظاهر يأتي الحديث - بإذن الله - عن بعض وسائل الخلاص.
... ... ... ... ... ... ... ... ... - يتبع -