تيار التجزئة والتفتيت
منصور بن زويد المطيري
حينما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة: (اللهم حبب إلينا ...
المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدّها وصاعها) . وحينما
رفع بلال عقيرته بالمدينة بعد أن نزعه الشوق إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل
وهل أردنْ يوماً مياه مجنّة ... وهل يبدونْ لي شامة وطفيل؟
لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن شعور فطري يعتري الإنسان تجاه منبته وموطنه
والدار التي درج فيها، وترعرع في رباها، وهو شعور يجده كل إنسان في شتى
بقاع العالم، ليس فيه ما يُعاب أو يُذَمُّ بل هو من تمام المرؤة وكمال الخلق إلا أن
هناك شروطاً لا بدّ من وجودها حتى لا يخرج هذا الشعور الفطري من المدح إلى
القدح وهو أن يكون في حجم طبيعي بسيط. أما إذا تضخم هذا الشعور ونفخ فيه
حتى يصل إلى حدود الولاء فإنه يتحول عندئذ إلى خصلة ممقوتة وصفة مذمومة من
وجهة النظر الإسلامية.
والحقيقة أن هذا الشعور المتضخم تجاه الوطن أو الإقليم وُجِدَ في بلاد الإسلام
في العصر الحديث بل إنه صنع وصدر إليها بغرض خبيث، بعد أن كان شعور
المسلمين في مختلف أنحاء العالم تجاه بلادهم المختلفة شعور فطري طبيعي مما
يُحْمَدُ ويمدح.
إن الغرب بالذات صنع كثيراً من المبادئ والعقائد في أرضه ثم صدَّرها عامداً
إلى أبناء العالم الإسلامي - والحق أنه لم يكن ليصدرها لو لم تكن عند المسلمين
قابلية للاستيراد - يقول المستشرق اليهودي برنارد لويس معترفاً بالجريمة الغربية:
(كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصّة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة
الأوثان منذ دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف انتصر النبي - صلى الله
عليه وسلم - وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية
لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى ولكنها ليست ضد (
اللات) و (العزى) وبقية آلهة الجاهلية بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة والعنصر والقومية. وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف.. الأصنام! ! فإدخال هرطقة القومية والعلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان
أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط - ولكنها مع كل ذلك كانت
أقل المظالم ذكراً وإعلاناً) [1] . وليس من العجيب أن يحرص الغرب على تفتيت
وحدة المسلمين، فقد كانت العقبة الكأداء في وجهه إبان استِعَارِ الاستعمار، حيث
كانت الجامعة الإسلامية كفيلة بأن تثير حمية الهندي والفارسي والأفغاني والتركي
والعربي وكل مسلم وسيلبون النداء حين يدعو داعيه.
ومن المعلوم أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض ضمّ في إطاره الكثير من
الأعراق والشعوب والبلاد، وكتب لهم تاريخاً جديدا وبتَّ الصلة بما كان قبله،
ورتَّب حياتهم على أساس الولاء للإسلام وحده، وكوَّن من كل هذه الأعراق أمة
واحدة تَتَّفق في الاعتقاد وفي التشريع المنظم للحياة الروحية والمادية، وقد كان
الإسلام هو السِّمة الأساسية لهذه الشعوب والأعراق التي تكونت في رحابه، وتحت
حكمه وفي ظله. وعلى ضوئه قام المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية،
وأصبحت اللغة العربية وعلومها وأدابها تاجاً يتزين به كل عالم في هذه الأمة من
العرب أو من غيرهم؟ بل لقد برز غير العرب كعلماء ترجع إليهم الأمة في مختلف
المعارف، وكانت الأعراق تكّون أمه واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر
الأعضاء بالسهر والحمى.
ومع مرور التاريخ استلم قيادة هذه الأمة الإسلامية خلفاء بني عثمان، وساروا
بها في جزء كبير من تاريخهم من نصر إلى نصر. وكانت دولتهم في أول أمرها
فتية ثم اشتد عودها ثم شاخت في نهاية أمرها لتعود رجلاً مريضاً يدفن بمرضه،
ويردم الأعداء التراب على قبره، ليتردد بعد ذلك في الأرجاء النواح والعويل
والجزع والذهول يشارك الجميع أحمد شوقي [*] في مرثيته للخلافة:
عادت أغاني العرس رَجْع نُواح ... ونُعيتِ بين معالم الأفراحِ
كُفِّنْت في ليل الزفافِ بثوبه ... ودُفِنْت عند تَبَلُّج الإصباحِ
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بِعَبْرةِ ضاحكٍ ... في كل ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ ... وبَكَتْ عليك ممالكٌ ونُواحِ
الهند والهةٌ ومصرُ حزينةٌ ... تبكي عليك بمدمعٍ سَحَّاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسُ: ... أمَحَا مِنَ الأرضِ الخلافةَ ماحِ
لقد تحققت إرادة الأعداء في تفتيت وحدة هذه الأمة، ولكن لم تحققت إرادة
الأعداء؟
وكإجابة على هذا السؤال سنشير فيما يلي وفي عجل إلى عامل واحد أدى إلى
فقدان الأمة الإسلامية لوحدتها وهو ظهور النزعات الإقليمية والقومية. لقد انتقل
كثير من المفاهيم الغربية إلى بلاد الإسلام عن طريق الاحتكاك الثقافي، وعن
طريق الزرع المقصود. ومن هذه المفاهيم، القومية. وهي مفهوم برز في
المجتمعات الغربية بشكل واضح وقوي في القرن التاسع عشر، وهو يهتم بخلقِ
وعي جديد يمجَّد جماعة محدودة من الناس، يضمها إطار جغرافي ثابت، ويجمعها
تراث مشترك وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة (وهذا الوعي القومي على درجات،
ويبدأ من مرحلة العاطفة الوطنية أي حب البلد الذي تتفتح فيه عينا الإنسان للنور،
بلد الآباء والأجداد، بلده الذي يحنُّ إليه إذا نأى عنه، ويحميه إذا اعتُدِيَ عليه..
وينتهي بمرحلة التفكير القومي وليس لهذه المرحلة حدّ، ولكن المراد منها هو جمع
شمل أبناء القوم الواحد، ولمّ شعثهم، والخلاص من الأجنبي الذي يرزحون تحت
نيره إن وجد، وإنشاء دولة مستقلة تضمُّ تحت لوائها مَنْ تجمعهم وحدة الأفكار
والمصالح والعواطف والذكريات والرغبة في العيش المشترك ضمن إطار جغرافي
معين تحدده في الغالب اللغة القومية) [2] .
وروح القومية هي الشعور بالتشابه من ناحية، والشعور بالامتياز عن الغير
من ناحية أخرى. فالشعور بالتشابه به يؤدي إلى عاطفة التضامن والتآلف والتناصر
بين أعضاء الأمة الواحدة، وهو الذي يقرِّب بين طباعهم وأمزجتهم وآرائهم،
ويشكِّل عامل توحيد وجذب بينهم.
والشعور بالامتياز ينمِّي الشعور بالكرامة الوطنية والشرف القومي والحسّ
بالمصير القومي، وينمي الرغبة في تأكيد صفات الخلق القومي وفرضه على مرأى
ومسمع من العناصر الأجنبية الأخرى، فهو الذي يحملهم على منافسة الغير وبذل
أقصى الجهد في سبيل التفوُّق.
هذه الفكرة وُجِدَتْ في بلاد المسلمين أول ما وجدت في دار الخلافة الإسلامية
تركيا فقد تسربت إليها من أواسط وشرق أوربا عبر قنوات عديدة منها أن اللاجئين
البولنديين والمجريين نقلوا معهم هذا المبدأ بعدما لجأوا إلى تركيا بعد فشل ثورتهم
سنة 1848م. فلقد بقي قسم كبير منهم فيها واعتنقوا الإسلام واحتلوا مناصب هامة
في الدولة العثمانية. وكان أحدهم الكونت بورزيسكس الذي سمى نفسه بعد ذلك
مصطفى جلال الدين باشا قد نشر كتاباً بعنوان (أتراك الأمس وأتراك اليوم) وفيه
جزء عن تاريخ الشعب التركي القديم يوضح الدور الإيجابي الخلاّق للأتراك في
التاريخ وقد كرَّس بورزيسكي جهده لإثبات أن الأتراك هم من العرق الأبيض مثل
شعوب أوربا، وينتمون لما أسماه العرق (الطوراني - الآري) . ويقول برنارد
لويس: (ولقد عمل الكونت بورزيسكس على نقل القومية البولندية ووضعها في
قالب تركي وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الأوربيين
الباحثين في الشؤون التركية، ولقد وصلت نتائج أبحاث هؤلاء إلى المجتمع التركي
عن عدة طرق، وكان لها تأثير هام على الذهنية التركية خصوصاً في تقدير التركي
القديم، والاعتقاد بالهوية المميزة والمركز اللائق في التاريخ، ولقد كان الأتراك
أكثر من العرب والعجم نسياناً لتاريخهم الماضي فقد كانوا لا يفكرون بأية هوية
أخرى غير الهوية الإسلامية، ولكن المستشرقين.. ساعدوا الأتراك على استعادة
هويتهم القوية الضائعة وعلى الدعوة إلى حركة قومية جديدة) [3] . وبمثل هذه
الأساليب تعزَّز عند جزء من الأتراك هذا الشعور القومي، وأدى بعد ذلك كواحد من
عوامل كثيرة إلى نشوء القومية العربية.
لقد كان لغير المسلمين جهد واضح وأثر فعال في ترسيخ الانتماء القومي الذي
يستند على العلمنة كإطار مبدئي. ولنستمع إلى ما يقوله إبراهيم اليازجي وهو
يستنهض همم العرب ويدعوهم إلى إحياء أمجاد آبائهم ويحثهم على الثورة على
الترك:
دع مجلس الغيد الأوانس ... وهوى لواحظها النواعس
إلى أن يقول:
ودع التنعم بالمطا ... يا والمشارب والملابس
أي النعيم لمن يبيت ... على فراش الذل جالس
ولمن تراه بائساً ... أبداً لذيل الترك بائس [**]
ولمن أزمته بك ... ف عداه يُظلم وهو آيس
إلى أن يقول داعياً العرب إلى الثورة على الترك كما فعلت شعوب البلقان:
ماذا نؤمل بعدهم ... إلا مقارعة الفوارس
فإليكم يا قوم واطَّ ... رحوا المؤانس والمدالس
وتشبهوا بفعال غي ... ركم من القوم الأحامس
بعصائبَ اتفقوا فجا ... دو بالنفوس وبالنفائس
تركوا جموع الترك يق ... صفُ فوقها الركب الروامس
فالترك قوم لا يفو ... ز لديهم إلا المشاكس
وفي آخر القصيدة يظهر الشاعر الوجه العلماني للقومية العربية:
ودعوا مقال ذوي الشقا ... ق من المشايخ والقمايس
ما هم رجال الله في ... كم بل هُمُ القومُ الأبالس
فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس
وله قصيدة بائية أخرى لها نفس الغرض ختمها بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت ... دهراً فعما قليل تُرفع الحجبُ
لنطلبنّ بحد السيف مأربنا ... فلن يخيب لنا في جنبه أربُ
يقول مؤلف كتاب الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (وقد
سبق المسيحيون العرب المسلمين منهم إلى التحسس بالشعور القومي، وإلى
المجاهرة بالحركة القومية. ففي بداية القرن التاسع عشر دخل المذهب البروتستانتي
إلى البلاد العربية وترجم الإنجيل إلى اللغة العربية، وأخذت طوائف الروم
الأرثوذكس في بلاد الشام تطالب بتعريب كنيستها - وكانت الكنائس الكاثوليكية بما
فيها الموارنة قد استقلت عن روما وصار لها بطاركة، وخوارنة من العرب وغدت
لها مدارسها العربية، وتخرج من المعاهد التي أنشأتها الإرساليات التبشيرية
والطوائف المختلفة رواد الحركة القومية العربية) [4] .
ويقول: (وعلى يد العرب المسيحيين تشكلت أول الجمعيات السرية العربية،
التي ندَّدت بالحكم التركي وطالبت باستقلال الولايات العربية عن الدولة
العثمانية) [5] .
وكما هو معروف فقد لعبت القومية العربية بعد ذلك بسنين دوراً أساسياً في
الساحة شَهِدَهُ الجميع. والحقيقة أن هناك ما هو أخطر من القومية على وحدة
المسلمين ويتمثل في تيار الإقليمية الوطنية بمعنى حب الوطن والولاء له. وهو
مفهوم حديث لم يعرفه المسلمون من قبل، وقد ورد إلى العالم الإسلامي قبل المفهوم
القومي. وكان أول من دعا إلى الوطنية بهذا المفهوم رفاعة الطهطاوي، فمثلاً
يقول في أحد كتبه: (فقد أجمع المؤرخون على أن مصر دون غيرها من الممالك
عَظُم تمدُّنها وبلغ أهلها درجة عالية في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وأن
آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرناً، ويشاهدها
الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج. مع تنوعها كل التنوع،
فجميع المباني التي تدل على عظم ملوكها وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة
الملوكية وبراهينها) [6] ، وقد تطورت مثل هذه الفكرة بعد ذلك حتى أصبحت
دعوة شعبية شعارها (مصر للمصريين) .
وكما يقرر المستشرق لويس فإن مصر كانت (البلد المسلم الوحيد الذي تقدمت
فيه فكرة الوطنية المحلية وكان ذلك بسبب عوامل عدة:
1- مصر بلد واضح المعالم الجغرافية والتاريخية.
2- كان فيها عائلة حاكمة قوية مصممة على إتمام الاستقلال (يقصد الانفصال
عن تركيا) .
3- تاريخ قديم رائع اكتشفت آثاره منذ مدة وهو من أهم العوامل التي يستند
إليها الافتخار بالوطنية) [7] .
وفي سبيل ترسيخ الشعور بالوطنية في بلاد المسلمين نشط الاستشراق بشكل
فعال في بعث التاريخ السابق على الإسلام في كل بلد من البلاد الإسلامية وأفلح في
تأسيس هيئات للإشراف على عمليات التنقيب عن الآثار وإنشاء متاحف وطنية،
وكان الإشراف على هذه العمليات في يد الغرب فقد أشرفت فرنسا على بحوث
الآثار في مصر وإيران، وأشرفت بريطانيا على الهند، وأشرفت إيطاليا على آثار
ليبيا. وبعد الاستقلال تغيرت الأوضاع واستلمت الحكومات الإشراف على هذه
الآثار ولكن الذي حدث (هو أن عالم الآثار الغربي في كل دولة من تلك الدول قد
ساعد في إعداد قانون خاص بالآثار للبلد الإسلامي الذي يعمل فيه، وأصبح
مستشاراً لموظف وطني عين من حكومته مديراً لمصلحة الآثار) ، وكان الغرض
من هذا كله أمرين:
الأول: إحياء التاريخ الميت للبلاد الإسلامية ومحاولة بثه في شعور أهل كل
بلد بحيث يحصل اعتزاز وافتخار بالانتساب إلى مثل هذه الحضارات، والشعور
بهوية متميزة، فالمصريون أحفاد الفراعنة والسوريون أحفاد الفينيقيين، والعراقيون
أحفاد الآشوريين والبابليين، والمغاربة أحفاد البربر، وأبناء الجزيرة العربية أحفاد
العرب الأقحاح وهكذا
الثاني: إضعاف دور الإسلام حيث تعطي مثل هذه البحوث التاريخية انطباعاً
عاماً بأن الإسلام مرحلة من مراحل حضارة البلد، سبقته حضارات وستتلوه
حضارات. وما هو إلا حلقة ضمن هذه الحلقات يعتز به كما يعتز بغيره، والولاء
في النهاية للوطن الذي أبدع كل هذا.
وعلى كل حال لم تكن هذه الجهود لتؤتي أُكُلها في تجزئة بلاد المسلمين لولا
القوة الاستعمارية التي فرضت هذه التجزئة، فكما يقطع الجزار ذبيحته قطعة قطعة
فعل الاستعمار بالدولة العثمانية فعل الجزار، فالبلاد الواقعة تحت سيطرة العثمانيين
قُسِّمت إلى عشرات الأجزاء ولم يكن ذلك لتعدد المستعمرين، بل كانت العملية
واعية ومقصودة هدفها التمزيق إلى أقصى درجة فالذي حدث (أن المناطق التي
وقعت تحت سيطرة الاستعمار الواحد جزئت تجزيئاً، فلبنان انفصل عن سوريا،
وكلاهما تحت الانتداب الفرنسي، والأردن فصل عن فلسطين، وفصل العراق
على حدة، وكذلك دول الخليج ومصر والسودان وكلها كانت تحت نفوذ الاستعمار
البريطاني، الأمر نفسه بالنسبة للمغرب العربي الكبير الذي تجزأ وكان أغلبه تحت
السيطرة الفرنسية) [9] . كما عُزِلَتْ البلاد التي لم تدخل تحت الولاية العثمانية
حيث عُزِلَتْ إيران على حدة، وأفغانستان على حِدَةٍ، والمناطق الإسلامية في آسيا
الوسطى كل منطقة على حدة، والهند على حدة.
انتهت خطة التجزئة بالعدد الذي نراه من الدول في العالم الإسلامي،
وبالحواجز التي نشاهدها بين أبناء الأمة الواحدة، وقد تكوّنت في كل بلد مع الأيام
أنظمة وقوانين خاصة، ودساتير متنوعة، ووُجِدَ في كل بلد أصحابُ مصالح في
إبقاء الوضع وإدامته، ونشأت افكار وعقليات وطنية خاصة بكل بلد، ونشأت
محظورات عالمية يُحَزَّمُ المساس بها (سيادة الدولة) و (سلامة أراضي الإقليم) و (حرمة الحدود) و (تخطيط الحدود) وعدم التدخل في (الشؤون الداخلية) وإقامة (الدولة العصرية) أو (الاشتراكية) أو (التقدمية) وغيرها مما يكرِّس واقع التجزئة. ومن ناحية أخرى فعلى كلّ بلد أن يُسَيِّرَ أموره حسب إمكاناته حتى ولو سارت الأمور عكس ما هو معقول بالنسبة للأمة الواحدة، فكم من بلد يملك القدرة البشرية ولكنه لا يملك المال، وكم من بلد يملك المال وتنقصه القدرة البشرية، وكم من بلد يملك الإمكانات الاستراتيجية ولكنه لا يملك المال أو البشر، فمثلاً: (أكثر من ثلثي الأراضي العربية الصالحة للزراعة تقع في خمسة أقطار عربية، ... ومعظم النفط العربي يكمن في خمسة أقطار عربية، وإن ثلاثة أقطار عربية يتركز فيها أكثر من نصف سكان الوطن العربي، وإن عشرة منها يتركز فيها 90% من السكان) [10] . هذا على نطاق العالم العربي فما بالك بالعالم الإسلامي.
لقد كان الأمر يسيراً في البداية ولم يكن يسيطر واقع التجزئة على العقول بل
كان يُنْظَرُ إليه على أنه حالة طارئة، ولكن في الوقت الحاضر أصبح الواقع يحظى
بالقبول من الكثرة الأكثرية ويشكل الأساس في الفكر وفي الحياة الواقعية.
وفي الختام فإن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسلمين كما يأمرهم الإسلام هي
النقطة الأساسية الأولى في سبيل التغلب على الواقع. لقد نقلتهم الإقليمية من القوة
إلى الضعف ومن الغنى إلى الفقر ومن الأخوة إلى العداوة (كم هناك من الخلافات
حول الحدود قابلة للانفجار في أية لحظة) . وستجعل لهم الوحدة مكانة متميزة بين
الأمم، وستوفر لهم مجالات أرحب للتنمية. وعلى كل حال فإن الواقع يفرض أن
يقتصر الحديث في هذه المرحلة على التكامل الاقتصادي، وإنشاء سوق إسلامية
مشتركة، والتقارب عن طريق المنظمات الإسلامية وأن شحَّت فاعليتها إلى أكبر
حد ممكن. كما ينبغي أن تيسر تنقلات المسلمين فيما بين دولهم، ومن الأهمية
بمكان وجود تكامل سياسي يدعم معنوياً ومادياً ويساعد على حل الخلافات بين دول
العالم الإسلامي.