مجله البيان (صفحة 1456)

الملف الأدبي

الحداثة بين التعمير والتدمير

د. حسن بن فهد الهويمل

الثابت من خلال المتابعة أن الحداثة ذاهبة لا محالة، وأن أشياعها سيوفضون

إلى نصب جديدة تقيمها الحضارة المهيمنة، ويقيني أن العالم النامي المسكون

بالتبعية وقابلية الاستجابة يتهيأ لاستقبال (ما بعد الحداثة) وهو مذهب نشأ قبل

خمسين عاماً وبطأ به انشغال المسرح بأدوار الحداثة في ظل إذعان كرسَّه الانبهار

وفقد الثقة والشعور بالنقص. حتى ضاعت الهوية وانطمست المعالم وتلاشت

الخصوصية، ولا مراء في أن الأخذ بعصم المتغيرات قبل وعيها سمة الضعف

والدونية والرداءة.

وما لا ننكره أن الغرب تخطى المقاعد الخلفية، وهب من رقاد طال أمده،

ونهض من تخلف استحكمت ظلمته، ونفض عن نفسه وضر الخرافة وانسلخ من

ماضيه واستقبل حياة مجردة متحررة من كل سلطان، وشكل حياة جديدة خلصته من

عصور التخلف التي حاربت العلم وأحرقت الكتب وربطت الناس بطقوس دينية

ثقيلة.

عمل كل ذلك لحياته الدنيا وحين رفض الآخرة رفضته الأولى وذلك سر

اضطرابه وتدهور حياته.

ولن تتأتى لمشرقنا العربي ممارسة التجربة الغربية لأن له عقيدة ورسالة

وموروثا، تشكلت منها حياته التي خاض بها تجربة التفوق والتألق، ولم يعش

فراغاً فكرياً، وتخلفه وضعفه العارضان نتيجة تفريطه بمؤهلاته القيادية. وحين

أدرك الغرب ببقايا صليبية وطوفان استكباره وهاجس تخوفه أن المارد منتفض لا

محالة، أفاض عليه بسقَطِه وحَشَفِه وسوء كيله ليظل مقطورة مسيرة لا مخيرة.

ومن مصائبنا الجسام قيام بعض المفكرين العرب بترسم خطى المصطلح الغربي ظناً

منهم أن التجربة الناجحة في الغرب سيكتب لها النجاح في الشرق. وتحرر الغرب

من عصور التخلف، ونجاحه في عملية الانفلات من قيوده حمله على جرأة التغيير

والتدمير وامتد وباء التغيير إلى الفن حيث استعذب التخلي والمغامرة بحثاً عن

عرض الحياة الدنيا المحصورة بين رحم الأم ورحم الأرض على حد قول الحق

عنهم [إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ومَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] [الأنعام 29] .

والراصد للتحولات يصاب بالذهول لتتابعها واستشرائها في مجال الفكر

والسياسة والاقتصاد والتربية وعلم النفس والأدب، ففي مجال الفن نهضت

الكلاسيكية ماثلة بالمحافظة على القيم والمعايير القديمة، ولكنها هدمت ليقوم على

أنقاضها مذهب رومانسي تسامى على عقلانية عصر التنوير متجهاً إلى حدس

التوصف رافضاً الموروث في اللغة والشكل والمضمون، ولم يطل مقامهم في

رحابه، لأنهم لا يصبرون على طعام واحد، فألحقوا الرومانسية بالكلاسيكية

ونبذوهما معاً وراء ظهورهم سخرياً ليستقبلوا (البرناسية) وما تلبثوا في مداها إلا

قليلاً، فقد ملوا من لغو الحديث لذاته.. ثم أوجفت عليهم (الواقعية الاشتراكية)

بخيلها ورجلها واستمر ينتابهم طائف منها في مختلف تحولاتهم، وهبت وثنية العلم

تقلب لهم الأمور، فتفتقت أذهانهم عن أدب رمزي سداه الذات والموضوع، ولحمته

العالم العلوي فجسد لهم ضعف الإنسان وقلقه. واتخذ لغة الإشارة والإبهام لغةً بديلةً

عن الوضوح؛ ولما اشتد ساعد الرمزيين أفاضوا إلى (الدادية) واتخذوها احتجاجاً

على القيم والمؤسسات والمنطق فغمرتهم بطوفان القلق والتشاؤم والبَرَم بالحياة

والشك بكل شيء، واستفحل داء العبثية وتشكلت السريالية بتلقائيتها المتحررة من

العقل والقيم والجمال والشعور، وتحقق في ظل سيادتها أحط دركات الفوضى.

ومنها هبت رياح (المستقبلية) متأثرة ببقايا الرمزية وجاء (التصويريون) بصور لا

تتعلق بمعنى ولا عاطفة، وعطلوا التوصيل، وركزوا على الإيحاء والغموض،

ونهض (التعبيريون) بثورتهم ضد الفن السائد، معتمدين على تشويه الملامح

البارزة. وعلى سفوح المذاهب شبت نوابت سوء أدركها الضياع بعد ما أفسدت

الأذواق وعطلت مهمات الكلمة الطيبة وأفقدت الأدب هدفه السامي وغاياته النبيلة.

وتشعبت المذاهب الأدبية، يتجه بعضها إلى الشكل لإيمانه بجمالية الفن وإمتاعه،

ويأخذ بعضها الآخر بعصم الموضوع لإيمانه بنفعية الفن وتوجيهه. وسمع الناس

دوي المصطلحات وصخبها وتداخلت التحولات واختلطت المذاهب، ولم تقم بينهما

حواجز ظرفية تميز بعضها عن بعض، كما لم تقم في الساحة ثوابت وقناعات

يرجع إليها عند الاختلاف. وأقبلت الشيوعية بإلحادها، والرأسمالية بأنانيتها،

وهبت أعاصير الوجودية بعبثها. وقامت صراعات طاحنة بين رؤوس الفتنة،

واختلطت الأمور، واختلت الموازين، وسقط الفن في وحل الصراع، وطاف عليه

وعلى اللغة طائف (البنيوية) يُشرِّح، ويُحوِّل ويفكِّك، وتلقفها الشرق والغرب،

ووجدوا فيها ضالتهم لأنها تًمنِّيهم وتعدهم بالإنقاذ من معضلة النشأة الأولى، وامتدت

إليها يد الملاحدة لينسفوا بها كل منجزات الفكر الإنساني وارتفع مكاؤهم وتصديتهم

بعد ما اكتشفوا الخلية، وضاع رشدهم عندما سئلوا عما قبلها. وبلغ الفن دَرَك

التشتت والضياع بعد طرح مصطلح (الحداثة) ، وفيما بين هذا وذاك نسمع ونرى

مذاهب شتى لها انتفاخ الأسد وضآلة الهر. ويطل عالمنا يستهلكه التلقي الأبله

والتبعية المنضبطة، يركض وراء كل بارق، ويحارب تحت كل راية، ليس له

قضية محددة ولا هدف معين، ولا خصوصية متميزة، يؤمن بمعادلة كاذبة أطلقها

الحاقدون وصدقها المغفلون، فإما الإسلام والتخلف؛ أو العلمانية والتقدم، وأشاعوا

بأن الخطاب الإسلامي برداءته وإسفافه ومرجعيته يقف في وجه المستجدات

ويحارب العقل، ويشل التفكير. والحق أن العقل شرط التكليف، والتفكير فريضة

إسلامية. وجرَّت (الحداثة) وابلاً من إشكالياتها تمثلت في تعددها واختلاف

الحداثيين حول مقتضيات كل حداثة ومداها في التغيير، فالحداثة لم تكن أحادية

اللغة فكل قومية لها لغتها.. وكل لغة لها حداثتها. ولم تكن أحادية الأصل والتراث

فلكل قوم أصولهم وأسلوب التعامل مع هذه الأصول. ولم تكن نتاج مرحلة زمنية

واحدة، فعمرها يمتد مع الزمن الماضي، حتى أن رموز الحداثة العربية التمسوها

في اتجاهات تراثية متباينة. فهي عند أبي تمام لغوية، وعند أبي نواس عبثية،

وعند الرومي عقدية، وعند المتنبي ثورية، ومن ثم فهي مترامية الأطراف مختلفة

الألسن متباينة الأصول، ومتناقضة العقائد، فلكل رمز من رموزها حداثته.. ولكل

عصر حداثته، وهناك حداثة مطلقة وأخرى مشروطة، وحداثة إبداع، وحداثة فكر.

وتبعاً لهذا جاء تركيبها معقداً، واستوعبت كل المتناقضات وأصبح من

المجازفة إطلاق الأحكام العامة في سياق الإدانة أو البراءة.

واتساع نطاق الحداثة وتعاقب المنظرين واختلاف ألسنتهم وألوانهم ومشاربهم

وخلفياتهم الثقافية والعقدية هيأ للخلاف البين حول رسم خارطة لها.. ولو أتيحت

متابعة متأنية لطروحات الدارسين لكنا أمام كم هائل من الحداثات حتى أن بعض

النقاد يشك في قيمة المصطلح كأداة نقدية نظرية، ولكن غبش الرؤية لا يمنع من

تسليط الأضواء على المقترفات. ونحن في عالمنا العربي نتلقى هذا الفيض،

ونتمثل هذا الخلاف فنقول مثل قولهم، ونختلف كاختلافهم، حتى لو دخلوا جحر

ضبٍّ لدخلناه، وعلى المناهضين للحداثة أن يتلبثوا في أحكامهم، لأن الحداثة

العربية خليط من حداثات شتى، تسربت من كل جهة، ونسلت من كل حدب.

وفي إطار هذه التحولات المتلاحقة لن نستطيع إعطاء صورة سوية مقرؤوة

الملامح (للحداثة) ، لأنها تنتمي إلى مفاهيم متغيرة متناقضة. كالمفهوم التاريخي،

واللا تاريخي، ويسمى بالمكونات اللا زمنية، والمفهوم العقدي والفني. وإذ لم تكن

أحادية الظرف واللغة والثقافة والحضارة والدين جاء مصطلحها إشكالاً متنامياً بذاته. فالربط الزمني يحوله إلى صراع القديم والجديد مما عرفه أسلافنا: كأبي عمرو

بن العلاء والأصمعي والمبرد وابن قتيبة، والربط الدلالي يحوله إلى مقابل دلالي

هو (القِدَم) ، والربط التشكيلي يحوله إلى مناحي التجديد في الصورة والوزن

والأسلوب. وكل هذه الروابط لا تحسم جدل الحداثة، لأن جدلها عقدي حضاري

فلسفي قبل أن يكون فنياً. ومقتضيات المصطلح الغربي أخرجها من كل أطرها

الفنية، ليورطها في ممارسة منحازة تدعي الاستجابة للانفجار المَعْرفي، مما

يستتبع تفجير اللغة والبنية والدلالة، ومن ثم يتغير موقف الفن من الله والإنسان

والكون.

وعندما ناشد بعض منظري الحداثة بوضع فلسفة لها، وقدم مشروعاً يقوم

على تشكيلها من الفلسفات (الوضعية) (والمثالية) (والواقعية) ؛ تساءل أحد

الباحثين بسخرية مضحكة: (أيَّة وضعية تعني: أتعني وضعية) أوغست كونت (أو وضعية) مور (أو الوضعية المنطقية ... وأية مثالية تعني: هل تعني المثالية ...

الذاتية. مثالية) فيخته (أو المثالية الموضوعية مثالية) سللنغ (أو المثالية المطلقة مثالية) هيجل (أو المثالية المتعالية مثالية) كانت (أو المثالية الإشكالية مثالية (ديكارت) . ومع كل الصعوبات ما برح الوسطاء والتوفيقيون يخو ضون جولات مرهقة للقضاء على عنصر الرفض، وردم هوة الخلاف، وتجسير الفجوات القائمة بين الحداثة الغربية ومطالبنا الملحة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولم يفكروا في تشكيل حداثة تحافظ على خصوصيتنا، وتستجيب لمطالبنا، وتنسجم مع قناعاتنا وثوابتنا، بحداثة تحترم ذوق المتلقي، وتملأ فراغ نفسه، وتوقف نزيف الكلمة الطيبة المنحورة على نصب الغموض والنثرية وعبث القول.

وفي سياق التبرير والتوفيق نسمع وصف (الحداثة) والتحديث والتفريق بين

التجديد والتجدد، والاحتذاء والتجريب. ونضيق من الإسراف في ضرب الأمثال

وتناسي جوهر الأشياء وما تفضي إليه، والقول بأن الحداثة مطلق التغيير، وتقدير

حتمية التجديد، وتناسي ذلك عند التطبيق.

والكلمة.. وتفسير الكلمة لا يحل الإشكال. وإذ نؤمن بالتجدد وضرورة

التجريب يجب أن نضع لذلك ضوابطاً وشروطاً فيها اتساع ومرونة. فالتجريب

بدون ضوابط عبث، والتجريب بدون انتماء ضلال، والتجريب دون ثقافة ووعي

تخريب. والعبث والضلال والتخريب مرتكزات الحداثة التدميرية ومنطلقاتها. وإذا

أردنا مواكبة المستجدات والفكاك من العزلة والانكماش، فلا بد من التحرك في

إطار الانتماء والضوابط والثقافة والوعي، ويكون الانتماء باستصحاب مقتضاه

[الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ] [آل عمران 191] ، [كُنتُمْ خَيْرَ

أُمَّةٍ] ، [ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ] [آل عمران 139] ، [واعْبُدْ

رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] [الحجر 99] . ولا تكون الثقافة إلا باستيعاب الموروث

وتمثل الطارىء. ولا يكون الوعي إلا بفهم المرحلة المعاشة ومعرفة متطلباتها.

وبهذا كله نستطيع التفكير في (أَسْلَمةِ الحداثة) وجعلها إشكالية عربية متحاشية

التورط في الإلحاد والرفض والتصدي للإسلام واتهامه بتزييف الوعي وسخافة

الخطاب، في سبيل تحديث الإسلام لأسلمة الحداثة.. وإذ لا ننكر وجود تحولات

في كل أوجه الحياة؛ فإن الأدب شعره ونثره طرأ عليه تجديد واضح وملموس

أدركه علماء القرن الثاني، ورفضه بعضهم وسماه بالمحدث، ومع المقاومة العنيفة

والتصدي القوي غلب الجديد لأنه سنة الحياة التي لا تتبدل ولأن لكل زمان ذوقه

وتطلعاته، فهلا نطلق كلمة حداثة على هذا اللون من الأدب، أو أن من لازم شيئاً

اشتهر به، وملازمة الحداثة للمخالفة المرفوضة حددت مفهومها. مجرد سؤال.

فلربما يقول البعض: إن رفض هذا الإطلاق من باب كف الغيبة ودفع الشبهة

والابتعاد عن الحمى على هدى: [لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا] [البقرة 104] ،

فالنهي لا يرتبط بالمدلول الوضعي لهذا الجذر العربي، وإنما ينظر إلى ملابساته

وسياقه وظرفه. وعلى غرار (الكافر) للمزارع (والغائط) للمنخفض من الأرض.

فتحامي الاستعمال لتلبس الدلالة، ولما كانت ملابسات الحداثة بهذا الشكل

رفض البعض إطلاقها تلافياً للتوهيم. وقبل أن نختلف حول قبول المسمى أو

رفضه، لا بد أن نفهم جذور البلاء، ونستبين ملامح الدعاة فكم من دعاة على

أبواب جهنم. ولا يتم ذلك إلا بفهم متكامل لطبيعة الصراع بين الإسلام وسائر

القوى المضادة منذ أن وقف المنافقون واليهود في وجه المهاجرين والأنصار إلى

يومنا هذا. ولا يتم إلا بفهم شامل ودقيق للبعد الثقافي لكل الفترات ولكل

الشخصيات التي تركت بصماتها واضحة في مسار العالم الإسلامي، ابتداء من

الحملة الفرنسية، ومروراً بمحمد علي وأتاتورك، ثم بالعلماء والأدباء والمفكرين

الذين اختلفت فيهم الآراء، ومعرفة فصائل الصراع ودوافعها والممول الفعلي لهذا

الصراع وسبر أغواره وفهم منازعه. ومع كل هذا يجب استبعاد سوء النية

والتخلص من عقدة الغزو الثقافي فليس من صالحنا أن نعيش هذا الهاجس في كل

مواجهاتنا، وأن نعتبر أنفسنا في حالة حرب مستمرة مع الطرف الآخر. إن هناك

غزواً ولكنه دون الشمول الذي نتصوره، وبالتالي فليست كل ممارسات الغرب من

باب المكيدة، وفهمنا الصحيح للغزو يحدد أسلوب تحركنا وتعاملنا، وفهمنا للدعوات

يكشف الهدف من قبل التورط في النتائج.

ولو أننا فهمنا جذور البلاء وميزنا بين الغزو والتبادل لحلنا بين العدو وبين ما

يشتهي، ولتخلصنا من داء العزلة والتبعية. إن إمكانات العصر أدت إلى سرعة

الاتصال وتعدد قنواته وتداخل حاجاته وتلاحق متغيراته. وكل ذلك أسهم في تصعيد

مشكلة التصور، وأفضى إلى خلافات لا تخلو من الوهم والتفاهة والهامشية. (والحداثة) في سياق طروحات الغرب اختلفت حولها الآراء، والثابت أنها تستمد

لحمتها وسداها من واقعها المعاش، ومن ثم فإن لكل زمان، ولكل أمة، ولكل ثقافة

(حداثة متميزة) . هذا ما يجب أن يكون، أو ما هو كائن عند غير المقلدين، فهل

نملك القدرة على بلورة (حداثة عربية) ذات شخصية متميزة تصد وباء الطارىء

وتغني شبابنا عن الركض وراء سراب القيعان، وتطوق مكائد الأعداء ومكرهم

وتفسد عليهم حيلهم.

حداثة ذات ملامح عربية وإسلامية، ثم لنسمها ما شئنا حداثة أو معاصرة أو

تجديداً. ثم أنملك - وذلك أضعف الإيمان - القدرة على تحييد الحداثة القائمة من

عبثية التدمير. أم أنها عالمية الانتماء علمانية العقيدة، ثورية الحركة. ودورنا

يقف عند التلقي.

إننا نسمع بإمكان بلورة حداثة عربية، ونسمع من يؤكد هذه الهيمنة الغربية

على الحداثة العربية، ومن يناقض نفسه فينظر إلى إشكاليتها التراثية من خلال

محورين: أحدهما باركه ابرت قتيبة والمبرد وابن جني وابن رشيق. محور

التجديد الدلالي واللغوي والتجديد في البناء والصورة والأسلوب. ومحور التمرد

على الأعراف، كما هو عند الصعاليك، والتمرد على القيم والأخلاق كما هو عند

الخمريين، والمجان، والعلمانيين، والتمرد على السلفية كما هو عند شعراء الفرق، والتمرد على السلطة كما هو عند شعراء الطوائف، ومحور التمرد على الأعراف

والسلفية والأخلاق والسلطة يمثل الحداثة الحقيقية عند رموز التدمير. ونسمع من

ينادي بضرورة ربطها بحداثة الغرب ومن يراها جزءاً من مشروع حضاري شامل. وتلك المقولات المشبوهة تقف دون مشروع حداثة عربية وفصلها عن سياقها

الاجتماعي والتاريخي والحضاري في الغرب. وحين نتفق على تعريب الحداثة

وأسلمتها - ولا أحسبنا متفقين - فمن المخول بوضع شروطها وتحديد أبعادها

الدلالية والفنية؟ وتلك مشكلة لم تنشأ بعد.

وإذا كانت الحداثة في الغرب متلوثةً بمادية الماركسيين وإلحادية الوجوديين

فإنها في الشرق متلوثة بباطنية الهدامين ومادية المخربين وصليبية الحاقدين

وعلمانية المارقين.

وفي إطار هذا التورط، أنقدر على التوفيق بين وجهات النظر، ونتخلص من

تطاحن الأجيال ونطرح بديلاً يقوم على أصالة قادرة على المقاومة والتماسك في

مواجهة الطارئ؟ أم نتسلل لواذاً ونفضل التخلي عن جذر عربي للأعداء ينتزعونه

كما انتزعوا غيره على مر التاريخ العربي المدان بالتخلي الجغرافي والفكري. إنها

مشكلة يجب أن نفكر فيها جيداً قبل أن نتخذ القرار بالرفض أو القبول، لأننا مللنا

الخلاف والشجب والتناحر الكلامي، وحان الوقت لنلتقي على كلمة سواء ترأب

الصدع، وتفك الاشتباك، وتعيد لنا بعض ما فقدناه.

لقد تفرق الناس على مواجهة الحداثة إلى أصناف ثلاثة تذبذبت الحداثة عندها

بين التصنيم والتجريم والتحتيم. ففئة ترفضها بلا تفصيل، وتتهم أربابها، دون

استثناء، ولا تقبل بالمفهوم العام للتجديد والمعاصرة على سنن من قبلها من أدباء

وعلماء، ولا تفرق بين من يقبلها مفهوماً للتجديد الفني الخالص، ومن يتورط

بمدلولها الدنس وتدنيها المادي، وهذا الصنف تحركه عاطفة جياشة متقدة وتدفعه

نار متأججة، وتتحكم به رؤية غير واضحة؛ ومع عنف المواجهة وصرامتها فإن

العائد ضئيل والأثر وقتي. أما الصنف الاخر فخليط عجيب مريب من المشبوهين

والإمعات والتبعيين وعشاق الشهرة بالمخالفة، وهذا الصنف يحمل جراثيم متنوعة

لا يقضي عليها بوصفة علاجية واحدة لأن فيها مريض القلب، وضعيف الإيمان،

والمتردد، والمستجيب ببلاهة والشاك القلق، ومهزوز التصور والجاهل المستكبر،

والمتردية والنطيحة، والموقوذة وما أكل العدو.. والتصدي لهذا الخليط من

الفصائل - متفرقين أو مجتمعين - يتطلب الفهم والقوة والدراية والدربة في إطار

منهج دقيق وتحرف حاذق وأسلوب متكافىء للمجادلة والمحاجة، فالمخربون لا

يتحركون بهمجية ولا ينطلقون من فراغ، إن فيهم أساطين فكر يعرفون الحق ولكن

الهوى أصمهم وأعمى أبصارهم، وفيهم من يخبط كالعشواء في مجاهل التيه لا

يلوي على شيء من الوعي أو العلم بل سمع الناس يقولون شيئاً فقاله، ومشكلة

الواقع العربي استفاضة هذا النوع الذي يرفع رصيد الإمعية والغثائية وقابلية

الاستجابة لكل ناعق.

وثالث الثلاثة فئة تزودت من الثقافة بمفهومها الواسع، وتضلعت من التراث، وفهمت الحد المقبول من المعاصرة، وألمت بالمرحلة ومقتضياتها، وكشفت من

مكائد المقنعين والمندسين للوقيعة والفتنة وعرفت المدى المتاح للتغير والتجديد، ولم

تعر السمة أهمية بل نفذت إلى الجوهر، وجاء صراعها وتصديها متكافئين مع قوة

الخصم ومكره وخطورة الطرح المضاد، ومشكلتها الصراع الجانبي مع المتصدين

للأحداث عاطفياً، الذين يجهلون بعض الملابسات ويحرصون على تكريس الكيانات

وتنمية الصراع المذهبي. والحرص على التآلف لا يمنع من كلمة الحق، وواجبنا

الديني يقتضي الصدق والصراحة.

فالغاية واحدة والهدف مشترك، واختلاف المناهج يشفع له اتحاد الغايات.

وعلى المتخاذل في مواجهة الباطل والمتردي والمندفع باهتياج أعزل أن يقدروا

جميعاً المواقف غير المتضادة فكل إنسان مسؤول عن القول والصمت، [مَا يَلْفِظُ

مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] [ق 18] ، [وجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ

وشَهِيدٌ] [ق 21] .

وما أريد تأكيده في هذا الموقف أننا حين نتحدث يجب أن نفكر بمسئوليتنا

الشاملة، فليست مهمتنا مقتصرة على الأقربين، فالعالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ،

ومن لم يحمل هم أمته فوق كل أرض وتحت كل سماء فما أدى مسؤوليته، وعندما

نعرض مشاكلنا ونصنف الناس فإنما ننطلق من تصور شامل للمسلمين وهمومهم في

الداخل والخارج، وخدمة العقيدة ليست وقفاً على فرد أو جماعة وليست خاصة

بموقع دون موقع. فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، ومهمته أن يحفظ هذا

الثغر بكل ما آتاه الله من قوة وفق ما يراه مجدياً في هذا السبيل، وعلى المرء ألا

يكلف نفسه فوق طاقاتها، ودخول المعركة الفكرية بدون سلاح فكري متكافىء

تمكين للخصم وتكليف للنفس، والتصدي للفكر المضاد مناطه القدرة.

وإذا أردنا مصداقيتنا الاستمرار فعلينا أن نتخطى التعميم والتشهير وعشوائية

التصدي وأن نتجه بأناة وروية إلى الجانحين في إبداعاتهم أو في تنظيرهم لتنبيههم

وأخذهم بما اقترفوا، وتلافي إطلاق الأحكام العامة على أي مذهب يختلف حوله

الناس، وتختلف الفئة في إطاره، لأن في ذلك إفلاتاً للمذنب.

وصراع المذاهب معروف وقائم لا يستنكره أحد لأنه قد يحمل على التعصب

والهوى والمنافسة، فلا يكون له وقع ولا أثر، والمصرون على الحنث يجدون في

التراشق المذهبي فرصة ادعاء أن الخلاف من باب التنوع لا من باب التضاد.

والصراع الفكري يكرس المذهبية، ويقيم الكيانات، ويجعل الولاء والبراء للمذهب، فما الداعي لتجاوز نص الإدانة وخصوصيته إلى أفق المذهب وعموميته.

والصراع المذهبي قد يحيد بنا عن العدل في الحكم، ونحن مطالبون بالعدل،

والعدل صنو التفكير العلمي الذي لا يقبل الارتجال ولا التعميم ولا الانطباعية،

ومن مقتضياته تحديد الأحكام، وأخذ الأمور بقوة الفهم ودقة التصور، ومواجهة

الظاهرة بعقلية مستنيرة متفتحة تتيح الفرصة لعرض مفردات الظاهرة. والتبين

مطلب إسلامي ولا يعيب الحق مصدره، والمصطفى بخلقه العظيم أثنى على حلف

الفضول، وهو حلف جاهلي، وإذا بدت ظاهرة أدبية أو فكرية فعلينا محاكمتها

بصرف النظر عن مصدرها، فإن صحت قبلناها؛ وإلا رددناها. ولعلنا على علم

بنغمة حوار الحضارات، وقبل الدخول في دوامته لا بد أن نعرف مهمتنا في الحياة

وهويتنا وخصوصيتنا. فحوار الحضارات لا يعني التخلي عن ثوابتنا، ولا يعني

اللجاجة ومصادرة حق الطرف الآخر. والمحق في كل زمان ومكان حاجته إيصال

صوته، وإذا لم يذعن المبطلون لهذا الصوت فإنهم سيضيقون به ذرعاً، لأنه

صوت الضمير الحي والفطرة السليمة. والاستجابة لهذا الصوت آتية لا محالة،

فعلى صاحب الحق أن ينفي خبث اللجاجة عن صوته، وأن يقف حيث يتم

التوصيل. والمرتجفون من صوت الحق يتواصون فيما بينهم [لا تَسْمَعُوا لِهَذَا

القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] [فصلت 26] ، لأن صوت الحق إن لم يغلب

أوهن الخصم وخلخل حشوده، وما دمنا أصحاب حق فإن علينا أن نقتصر على

التوصيل. والفكر الإسلامي في مواجهته لكل التيارات بحاجة إلى الهدوء والأناة

والملاطفة [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] [النحل 125] ،

وبحاجة إلى تلافي صراع النجومية الذي يحوله إلى أداة تصارع من أجل الكسب لا

من أجل التصحيح. وبحاجة إلى تلافي صراع المذهبية الذي يحول الولاء والبراء

للكيان ولأعلامه. وبحاجة إلى فهم الطرح، وتمثله سلوكاً ومنهج حياة وفهم الطرح

المضاد، والاعتراف بحقه إن كان ثمة حق في بعض مفرداته، فالاعتراف بحق

الغير دعم للمصداقية. ويحتاج أيضاً إلى عقلية مستوعبة تفهم المرحلة ومتطلباتها،

وتدرك حجم المواجهة والامكانيات المتاحة. وتدرك قبل هذا وبعده ما يحاك داخل

أوكار الماكرين لمعرفة المنحرفين الذين ينسلون من كل حدب ليندسوا في الصف

الإسلامي وراء قناع الغيرة على الإسلام والدفاع عنه. وما الصهيونية والماسونية

والعلمانية والماركسية والرأسمالية والوجودية والباطنية وسائر النحل المنحرفة إلا

تشكل معاصر لجيش الفتن الذي فرق بين كلمة المسلمين وجعل الصحابي يشهر

سيفه في وجه أخيه. وما علينا لو أعدنا قراءة التاريخ لنتزود من مواقفه، فالتاريخ

قد يعيد نفسه، وقد نسمع ونرى ابن السوداء ماثلاً أمامنا يشعل الفتنة ويغرر بالناس. فلنأخذ حذرنا ولنعرف أن زماننا المواتي لن يترك فنحن أصحاب نعمة واستقرار

ورخاء. وهل هناك نعمة تتكافأ مع نعمة الإسلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015