الملف الأدبي
محمد بن حامد الأحمري
هل هذا زمن الدعوة للأدب إنشاء وإطلاعاً؟
وهل انتهت مشاكلنا فلم تبق إلا مشكلة الأدب؟
أم هذه الدعوة من باب الهروب من الواقع المُعاش إلى الخيال الأدبي؟
كارادتش السفاح الصربي الشهير يهيج جنوده بالأشعار والأغاني الجديدة
والقديمة، ويحفظ من أشعار الصرب النصارى القديمة والحديثة ما يثير عواطف
جنوده أشد الإثارة، ويستعيد أشعار الصرب وأحزانهم في حروبهم السالفة مع
العثمانيين، ويتغنى بأمجاد أجداده الذين ماتوا في المعارك مع المسلمين، ويحث
جنوده النصارى على قتل المسلمين عند حنايا الأودية، ويحثهم على اصطياد
المسلمات، ويثير عواطف الصرب باستغلال آدابهم القديمة الحاقدة على المسلمين،
والتي ترجم بعضها وللأسف إلى العربية.
أما نحن فعندنا ضعف في الإنشاء الأدبي وفي استرجاع الأعمال الأدبية
المهمة.
ورب أمة حفظت أدبها وأساطيرها وغابت في طيات النسيان.
أدب الحرب حماسة، وأدب السلم متعة وهو في كل الأحوال صناعة من
القول العذب الراقي يستجمع فيها المنشئ للمادة الأدبية مخزونه العلمي واللغوي
ويستحث خياله لصناعة عالم جديد يبدؤه بهيكل الفكرة الرئيس حتى تكتمل، ثم
يتعهده بأجمل اللباس وأرقى الزينة اللفظية والأسلوبية، في تناسب لا تبعده الفكرة
عن الأسلوب والزينة، ولا تجرده الزينة من المضمون.
حين تطغى الفكرة على اللغة يتحول النص إلى دراسة فكرية جافة، وحين
تطغى الزينة الكلامية والأثقال اللفظية على الفكرة تتشوه الفكرة ويسقط المضمون
والزينة. لأن التناسق الفكري القوي مع الزينة لا تثقل بناء النص، فيحافظ على
رونق مقبول. والفكرة المكثفة الضعيفة الزينة تبقى خاصة بمن يقدر على ركوب
الصعب.
ما من أدب بلا قضية، حتى الذي سموه باللا معقول فإنه يحمل فكرة الضياع
والدعوة لها. إذ الفكرة أو المبدأ ليس إلا الروح السارية في النص، وهي التي
تجعلك تنتقل من صفحة إلى أخرى متابعاً لحدث أكان سببه عندك أو عند الكاتب،
سواء أفسّره كاملاً أو وقف عند جانب منه واكتفى بالرمز والإيحاء لأنه حاول
إعطاء فكرة وهدف.
إن الذين يستغفلون القراء وشداة الأدب بالزعم: إن الفن لا هدف له ولا
قضية ولا فكرة، أضاعوا أجيالاً من أمتنا؛ حاولت أن تنسج على منوال ما قيل لهم
أنه أدب بلا هوية ولا قضية، فإذا بقومنا يكتبون أدباً تملؤه أفكار أمم أخرى،
وتتلبسه صور وأحداث ومجتمعات وأديان غريبة، فهو يرثي أمة مزقت فوق
صلبانها ويحكي الضياع في أدغالها وتستهويه ثلوجها، ويتعارك مع إقطاعها
وحراس كنائسها، ترى أي أدب هذا؟ أليس صورةً لمجتمع وأفكاراً لقضايا
ومجتمعات أخرى تتردد على ألسنة من يقول: ليس لديه قضية ولا لفنه معنى.
نعم ربما كان كذلك، ولكن الذين أوحوا له هذا المعنى السلبي كان عندهم
قضية عالجوها فعالجها هو كما يعالجها أهلها دون أن يعي دوره.
حين ينجو الأديب المقلد من الصورة الوافدة لا تغادره الفكرة الغربية، وما من
عمل أدبي دون قضية أو مأساة إنسانية تعصف بقلب موهوب، سواء أكانت
العاصفة حباً أو حرباً أو موتاً، فهذه إن لامست قلباً موهوباً شجياً، وغنى ثقافياً،
وإرادة للعمل فتحت للناس نافذة للعقل والخيال، وصنعت لهم عملاً أدبياً يحمل فكرة
ومتعة، وينبئ عن صاحب الحال وزمانه جاعلاً فكرة من غير الفكرة. ومن أبسط
المواقف عبرة في سياق لا يخصك ولكنك تجد نفسك من خلاله شاهداً متفاعلاً
بدروس الأدب والحكمة. ولكم تقدر باحثاً عن الحق، هاوياً للمغامرة مثل محمد أسد
في (طريق إلى الإسلام) وأنت معه في تتابع الأحداث، لا يخبرك المؤلف بما يريد، ولكنك بعد زمن تفكر فيما قرأت، قال أحد قراء كتابه: (لقد أحسست بالظمأ في حلقي حين قص محمد أسد قصة الظمأ في الكتاب) ، إنه رسم صوراً في أذهان قرائه فكأنهم شاركوه وحلوا معه وارتحلوا وناقشوا النصارى في مصر، وجذبهم نور الإسلام في أفغانستان، وحاوروا المستشرقين بقوة وثقة. وضاغجي في (السنوات الرهيبة) صور مأساة المسلمين المحاربين في روسيا، واستطاع ... أن يجعل من القارئ مصاحباً له في القوقاز، شاهداً لإسقاط منارة المسجد العالية في قريته، وكأن القارئ يجلس معه في فصله الدراسي يرقب من النافذة السيارة الضخمة وقد ربطت المنارة بالسلاسل وجرتها، والمنارة تميل وتميل ثم تسقط، وكأنما سقطت مدينته، وانتهى تاريخه من تلك الأرض. وتقرأ رواية (السنوات الرهيبة) فكأنك تشاهد هدم المساجد اليوم في البوسنة، وتستمع إلى قول شيخ بوسني: (إن المساجد إذا هدمت فلن يعود المسلمون إلى هذه البقاع، إذا هدم المسجد انتهت هوية البلاد لذا بدؤوا بها) .
مشروعنا الإسلامي اليوم مشروع شامل لكل جوانب الحياة؛ والأدب من
أبرزها كيف لا وقد تميز ميلاد ديننا بالإعجاز القرآني، وبلاغة الكلمة النبوية،
وسحرها الذي تميز بالوضوح والإيجاز، وانتقاء الكلمات حتى ليكاد العادّ أن يعدها.
وبنى القرآن مع السنة ثقافة ثُقِّفَتْ فيها العبارة، وجلَّ الأسلوب فهدى الدعاة
العالم بفكر قويم، وأسلوب بليغ مستمد من كلام الصحابة الذين كان كل واحد منهم
حكيماً أديباً ينطق بكلمات جميلات جليلات كأنهن أفراس مسرجة.
حينما وقع الوهن جراء الانفصال الذي يروق لبعضهم أن يسميه تخصصاً
ذهب أهل المذاهب إلى عالمهم الجاف، وذهب أهل الزينة الكلامية إلى مشاغلهم،
وخرج الأولون بهياكل جافة منحوتة من الجلاميد، وبالغ أهل الزينة في زينتهم
فكانت غثاثة وملالة، فضعف الذوق، وقل الواردون إلى النبعين، ولم يصدروا
بأدب ودعوة وحكمة ذي بال.
مشروعنا الإسلامي يأخذ بشغاف القلوب، وينبه العقول، ويطلب من كلٍّ
جهدَه عملاً ومشاعراً، وفَجْرُنا يتنفس اليوم في أعقاب ليل كان حالكاً بهيماً ولم يزل
غالباً، ولكن فلوله آذنت بالرحيل والله غالب على أمره. والناشئة المسلمة لها ميول
وتلهف إلى الأدب قراءة وإنشاء بل يكاد أن يكون هو الرافد الأول في زمن المراهقة، وأوائل الشباب، لذا يجب أن لا نقف دون الرغبة ولكن نستثمرها وستجر القراءة
الأدبية إلى خير منها بإذن الله.
إن الأدب مدخل لصياغة عقول الناشئة، وتحفيز هممهم، وفتح سبل الأمل
في حياتهم، أما الثقافة المنقوصة فلا تبني الشخصية المتكاملة، والدعوة الجزئية لا
تجمع شمل الأمة، لذا يجب أن نراقب تكامل عملنا، وإلمامه بهذه الجوانب
الرئيسية، وعلينا إعداد القدوات المتميزة بغنى الثقافة، وعمق الشخصية، ونبل
العواطف، واتساع الخيال وآمال الخير.
وفي الصفوف الأولى من مسيرتنا الضاربة بعيداً في أعماق الزمان منارات
تميزت بأصالة المعرفة، ورهافة الحس والذوق بل وبمنهج نقدي واضح رائع أمثال
عمر وابن عباس - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.