مجله البيان (صفحة 143)

لابد من التحقيق.. ولكن..

منصور الأحمد

-1-

من المتفق عليه بين الباحثين أن علم الحديث بمنهجيته وأصوله وتطبيقاته؛

من مزايا الأمة الإسلامية، ومما تفردت به دون الأمم كلها، وأنه علم من مبدئه إلى

منتهاه إسلامي الانبثاق والنشأة والكمال.

وهو باختصار شديد علم يهدف إلى توثيق النصوص المنقولة، والتمييز بين

ما يصلح أن يكون أصلاً ومستنداً للحكم الشرعي وما لا يصلح لذلك.

وليس المقام مقام استرسال في بيان حدود هذا العلم، والخوض في مسائله

الواسعة؛ وإنما هناك حاجة إلى التنبيه إلى بعض القضايا نراها جديرة بالاهتمام

وتستحق من القارئ الكريم التفاتة ونظرة فيها شيء من التأمل.

-2-

لقد مر علم الحديث بفترات مختلفة، فنجد أن العصر الذهبي لهذا العلم قد

شغل القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، حيث نشط العلماء في الرحلة والتدوين،

وحفظت السنة النبوية في دواوينها المعتمدة، وعكف العلماء وطلبة العلم عليها

مقابلة وتمحيصاً وفهماً.

والفترة الثانية كانت فترة توسع وانبساط واشتغال بكثرة الطرق، وحرص

على النادر من طرق الرواية، وإن كان كل ذلك لم يؤد إلا إلى أقل القليل من

الإضافة إلى ما هو معروف من النصوص المعروفة والمشهورة والتي عليها مدار

الاستنباط.

وخلال هذه الفترة لاحظنا شيئاً من الخلل حصل نتيجة التباعد بمن علمي

الحديث والفقه ففي الفترة الأولى كان غالب الفقهاء محدثين، وغالب المحدثين فقهاء، وهذا هو الشيء الطبيعي لإنتاج ثقافة أصيلة نافعة، ولكن في الفترة الثانية حصل

شيء من التباعد بين هذين الاختصاصين اللذين لا غنى لأحدهما عن الآخر،

فأصبحنا نرى مؤلفين في الفقه لا علم لهم بالحديث، ومؤلفين في الحديث لا علم لهم

بالفقه إلا في القليل النادر.

ولكن من حسن حظ علم الحديث أن هيئ له في آخر هذه الفترة عالم فذّ، كان

محدثاً وفقيها هو العلامة الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، والذي ألف كتابه (فتح الباري) فكان خدمة عظيمة للفقه القائم على الحديث، ولدراسة الحديث القائمة ...

على الفقه الواسع والبصر به رواية ودراية.

وهناك فئة ثالثه نشأت في هذه الفترة، واستمر تأثيرها السلبي في الثقافة

الإسلامية إلى عصر نهضة المسلمين في هذا القرن، وهذه الفئة حشدت في مؤلفاتها

روايات باطلة وضعيفة، وسودت صفحاتها بما هب ودب من الأخبار والآثار، دون

تمحيص وتدقيق، وسرت هذه الأخبار والروايات كمسلمات عند كثير من المسلمين

فيما بعد فكان لها أثرها السيء الذي أوقعهم في دوامة من التبريرات والردود،

وشغلهم في الدفاع عن أباطيلهم في أغلب الأحيان.

والناظر في كثير من كتب التفسير والفقه والوعظ سيجد أمثلة كثيرة من

الإسرائيليات والأحاديث المنكرة، وكثيراً مما لا يصلح أن يحتج به على الإسلام،

أو يعاب بسببه. ويحمل وزر ذلك المؤلفون البعيدون عن التحقيق، والذين أطلق

عليهم لقب العلم، بينما أصدق لقب يمكن أن يطلق عليهم هو لقب: (حاطب الليل) . ...

وفي هذا العصر شعر كثير من المسلمين بواجب التحقيق العلمي للتراث

العربي والإسلامي، ونتج عن ذلك جهود مشكورة تصلح أن تكون مثالاً يحتذى.

-3-

وإذا كان هناك شيء من النقد؛ فإن كثيراً من الأمور المستحسنة والمطلوبة قد

يتعاطاها من لا يحسنها، أن من ينحرف بها عن هدفها المنشود، ويسير بها إلى

وجهة أخرى قد لا تكون لها علاقة بالعلم وحدوده، أو التحقيق ومجالاته.

وهناك أمثلة على ظواهر شائعة لابد من التنبيه عليها:

فهذا مؤلف يؤلف رسالة أو كتاباً في موضوع ما، ويريد أن يظهر بمظهر

العالم النحرير، فيوهمك - بكثرة هوامشه وإحالاته - أنه قد اطلع على كل ما ذكر

في هذه الهوامش، وبنظرة بسيطة جداً تكتشف أن هذه المراجع التي أشار إليها

ليست إلا ما نقله من مؤلف آخر في هذه المسألة! .

(وهذا آخر يبحث في قضية يريد أن يستشهد عليها بحديثه، فتخدعه نفسه،

فيلبس لباس كبار المحدثين، فيعمد إلى فهارس كتب الحديث فيجمع كل ما ورد من

طرق وروايات، وكل ما قيل حول ذلك من دقائق علم الحديث؛ مما قد لا يكون ... له كبير مساس بالموضوع الذي يبحث فيه، ويكفيه في هذا الصدد أن يكون

الحديث صحيحاً في ذاته، ولو ورد في مرجع واحد، ولكنه التكلف الذي يخرج البحث عن المقصود، ويضيع وقت الباحث والقراء فيما لا يعود عليهم بفائدة جديدة.

وهذا ثالث يكتب مقالة قصيرة، إذا ما قارنتها بما تحتها من حواشٍ لرأيت

العجب، ولكادت تلك الحواشي تعادل نص المقالة! .

وليس الاعتراض على أمثال تلك الحالات استهانة بالتحقيق والتوثيق، ولا

بجهود بعض المحققين الذين يبذلون جهوداً مشكورة في تمييز الصحيح من غيره،

والذين كرسوا جهودهم لذلك، وأنتجوا نتائج طيبة؛ ولكن اللوم يتجه إلى أولئك

النفر الذين لا يفهمون مدلولات الكلام ولا مصطلحات المحدثين، وليس عندهم

الحصيلة الكافية من الفقه بالنصوص، وبالفائدة المرجوة من التخريج، ومع ذلك

يستسهلون الصعب، ويتقحمون فيما لا يحسنون ويتجرءون على الخوض في أمور

أولى بهم أن يتركوها لمن يحسنها.

إننا بحاجة إلى التركيز في بحوثنا، والبعد عما لا فائدة منه من التكرار وزيادة

البسط والشرح في أمور قد بحثت، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى ...

استخلاص النافع الذي لابد منه لكل نهضة، والقادر على الثبات أمام الأفكار الوافدة

التي تكاد تعصف بالأمة في غيبة المنهجية في البحث، ولابد من البعد عن إثارة

القضايا الجانبية التي تستهلك الجهود ولا تؤدي إلى كبير نفع، والأمور التي يحتاج

إليها المسلمون من السعة والكثرة بالقدر الذي يحتم عليهم التخصص وفرز العناصر

والبعد عن (الموسوعية) وادعاء العلم بكل شيء، وليس عيباً اليوم أن تعرف جانباً

من العلم وتتقنه وتحسن التحرك من خلاله؛ وأن تجيب عن جوانب أخرى أو علوم

أخرى بـ (لا أدري) ؛ ولكن العيب كل العيب، أن تدعي معرفة كل شيء

وتخوض في كل اتجاه خوضاً سطحياً لا يؤدي إلى شيء، وبهذا تجمد الأفكار،

وتقبر الثقافة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015