نظرات في الدراسات الاجتماعية
مصادرها ومناهجها
طارق عبد الحليم
تحتل الدراسات الاجتماعية مكاناً بارزاً بين العلوم التي تشتد إليها حاجة الأمم، مع تزايد درجة وعيها بسنن الله سبحانه في خلقه الماديّ والبشريّ جميعاً، ومع
اضطراد رقيها العقلي والخلقي، وبعدها عن عفوية الفهم، وتلقائية التصرف.
وإن كنا نقصد بتلك الدراسات ما يتناول الحالة الإنسانية في انفرادها
واجتماعها بالبحث والتحليل، وإظهار ما يعتريها من ظواهر نفسية، وسنن
اجتماعية، فإن القرآن الكريم قد أحلَّ تلك المباحث محلاً عالياً، وأولاها رعاية
بالغة، وعالج في محكم آياته العديد من تلك الظواهر، كما أفصح عن دوام تلك
السنن؛ دل سبحانه على اضطراد سننه العامة المادية والاجتماعية في قوله تعالى:
[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 62] ،
وعالج حركة النفس الإنسانية حين تواجه خطراً محدقاً يكاد يذهلها عن قوام وجودها
- الإيمان - حتى لتظن بالله الظنون، قال تعالى: [إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ ومِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ وإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]
[الأحزاب: 10] ثم يصف سبحانه حالة النفس المنافقة المخادعة، وقد واجهت
الخوف والفزع: [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] [الأحزاب: 19] . ويفصح سبحانه عن اختلاط
أصحاب النية الصافية الكاملة التوجه لله سبحانه بمن لا يزال للدنيا نصيب من نفسه، وإن لم يصادم ذلك الإيمان في معرض بيان أثر ذلك على الدعوة الإسلامية
وتقدمها، منبئاً عن ذلك القدر الرفيع من الإيمان الذي يتمحض فيه الخير، وتتفرد
فيه النية لله، [حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا
تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ولَقَدْ عَفَا
عَنكُمْ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] [آل عمران] [1] .
ثم كثير كثير من الآيات المحكمات التي يعالج فيها الحق سبحانه تلك الحالات
التي تطرأ على النفس أفراداً وجماعات، ليكون المؤمن على بصيرة من نفسه،
وعلى وعي بمسالكها ودروبها.
يقول سيد قطب في الظلال: وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء،
أو بعد انقضائه، يصور الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه،
فتنكشف المواقف، والمشاعر، والنوايا والضمائر، ثم يخاطب القلوب وهي
مكشوفة في النور، عارية من كل رداء أو ستار ويلمس فيها مواضع التأثر
والاستجابة [2] .
ثم السنة الشريفة التي فيها بيان الكتاب وتفصيله، هي بيان لما بين العبد
وربه، وبين العبد وأخيه، وبين العبد ونفسه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في سنته القولية والعملية، وفى سيرته الطاهرة قد مارس أعلى درجات التربية
النفسية، والتوجيه الجماعي لتلك العصبة المؤمنة الأولى ممارسة فعلية وبياناً قولياً
بما يصلح أن يكون منهجاً متكاملاً وأساساً ركيناً لما هو موضوع تلك الدراسات
الاجتماعية الإنسانية.
وقد تناول عديد من علماء المسلمين وأئمتهم، في مجالي المباحث الأخلاقية
والتربوية، ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق قويم، وما يجب أن يتحاشاه من
سلوك ذميم، من خلال التعرض لتلك الصفات الحميدة التي دل عليها الكتاب
وفصلتها السنة كالصبر والحلم وكظم الغيظ في مجال المباحث الخُلُقية، كالإمام
النووي وابن القيم وغيرهما.
كذلك تناثرت في خلال بعض الدراسات التاريخية إشارات للسنن الاجتماعية
التي جعلها الله سبحانه قوانين ثابتة تحكم التجمعات البشرية في كل زمان ومكان،
كما يتضح في كتابات ابن تيمية وابن القيم على وجه الخصوص كما ظهرت في
العصر الحديث بعض الدراسات التي تناولت الجوانب الخلقية والأصول التربوية
الإسلامية وبعض الظواهر الاجتماعية بالبحث والتحليل، نذكر منها - على سبيل
المثال لا الحصر- تلك الدراسات القيمة للأستاذ محمد قطب عن (منهج التربية
الإسلامي) والتي تناول فيها، فيما تناول، بعض الظواهر المتعارضة في الحياة الاجتماعية، والتي تتعرض لها النفس الإنسانية بعامة، في صورة من الصور، كالفردية والجماعية، أو السلبية والإيجابية [3] .
وقد أسهم الدكتور محمد أمين المصري، بدراساته العميقة حول التربية
الإسلامية وأغراضها، وحول دور الفرد والمجتمع في الإسلام، وسلوك الفرد
وأهميته، في مجموعة محاضراته (المجتمع الإسلامي وكتاب المسؤولية)
وغيرهما، مما هو جدير بأن يكون محل احتفاء ورعاية من المسلمين، لما فيه ... من توجيهات فذة، وتحليلات رائدة.
كذلك ما تناوله الأستاذ مالك بن نبي من ظواهر شائعة في المجتمعات
الإسلامية المعاصرة، بعد أن تقهقرت في سلم الرقيّ الحضاريّ كالسطحية، وذهان السهولة، وما أشار إليه الأستاذ جودت سعيد في كتابه القيم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ؛ إلى غير ذلك مما يهم المسلمين اليوم أن يرصدوه في واقعهم وأن يتعاملوا ... معه تعاملاً واقعياً مبنياً على معرفة وإحاطة بما يعتمل في النفس الإنسانية من دوافع الخير ونوازع الشر.
ومما لاشك فيه أن الساحة الإسلامية قد ماجت بأحداث جسيمة خلال العقود
القليلة الماضية، وتجاوبت تلك الساحة للأحداث بردود أفعال شتى، ظهرت من
خلال أوضاع لا تغيب عن عقل الباحث المتتبع لمسرح الحياة الإسلامية في تلك
الفترة المعاصرة. وكان من نتائج تلك الأحداث وردود أفعالها في واقع المسلمين
وحياتهم أن ظهرت معطيات جديدة في الخريطة الاجتماعية للحياة الإسلامية لم تكن
من قبل، كما تعرضت النفس المسلمة - الفردية والجماعية - لمؤثرات لم تتعرض
لها من قبل، ذلك كله قد جعل الحاجة ماسة -أكثر من أي وقت مضى- إلى مزيد
الاهتمام بتلك الدراسات الاجتماعية والإنسانية، والتي تتناول بالتحليل والملاحظة
النفس الإنسانية المسلمة في واقعها الفرديّ والجماعي، ومن خلال حالات واقعية
محددة بعيدة عن التجريد، لتصل إلى الأسباب الكامنة وراء تلك الظواهر العديدة
التي تجتاح المسلمين وحياتهم، وتجتالهم عن طريق الحق والتقدم للهدف.
ولنزيد الأمر إيضاحاً فيما يخص تلك الدراسات، نستعين بضرب المثل -
أسوة بالقرآن الكريم - ولنتصور جماعة من العاملين بأحد المصانع، وقد لاحظ
القائمون عليهم ضعفاً وتكاسلاً، انعكس على قلة الإنتاج ورداءته، ولمعالجة ذلك
القصور كان أن عرض اقتراحان:
أولهما:
أن يبين للعاملين في هذا المجال -من خلال محاضرات وندوات طويلة
ومكثفة - ما يجب أن يكون عليه العمل، وما هي صفات العامل المجد، وما هي
عواقب التكاسل والتراخي، وما هي مزايا الجد والاجتهاد وفضل الإيثار وعدم
الأنانية.. على أن يتم هذا التوجيه سواء بالكلمة المسموعة أو النشرة المكتوبة.
ثانيهما:
أن نتناول بالملاحظة والتحليل تصرفات العاملين في المواقف المختلفة -
أفراداً وجماعات - وطبيعة العلاقات بينهم، وأن تشمل تلك الدراسة طبائع مثل تلك
التجمعات مقارنة بمثيلاتها ممن يشترك معها في صفاتها وخصائصها ونزعاتها، ثم
علاقتها بقياداتها التي تدفعها للتكاسل والإحجام، أو البذل والعطاء، وما هي وسائل
حفز أولئك الأفراد ليكونوا أغزر إنتاجاً، وأكثر نشاطاً، وأقل اختلافاً، وتعارضاً
في المصالح كما يشمل البحث الحياة الشخصية للأفراد، فرداً فرداً ليرى ما يؤثر
فيها من مشكلات وصعوبات تنعكس على أدائها بشكل أو بآخر، وما يوجهها في
حركتها من دوافع داخلية مستترة قد تتوافق مع الهدف العام والسياسة النهائية
للمصنع أو تتعارض معه، كذلك تلك العلاقات التي تنشأ بين الناس من حداثة وود
وأخوة، أو عداء وبغض وتحاسد، والتي يرجع وجود كل منها إلى طبيعة النفس
الإنسانية في أساس فطرتها حين تتعارض المصالح أو تتدافع الأهواء، بحكم ما هو
واقع لا بحكم ما يجب أن يكون.
حين تتم هذه الخطة، وينتهي هذا البحث، فإنه يمكن أن نزيل ما أمكن من
عوائق داخلية تعرقل الاندفاع لتحقيق الهدف والوصول إلى الغاية وزيادة الإنتاج
وكفاءته.
إذا انتقلنا بذلك المثال من مجال العمل والصناعة إلى مجال النشاط الإنساني
عامة، في اجتماعه لأداء عدد من الأهداف المحددة كمجموعة إنسانية، أو لتكوين
وحدة بشرية تاريخية كمجتمع متكامل، لاتضح لنا أهمية ما أشرنا إليه من دراسات.
فالحل الأول: يمثل الاتجاه المثالي في حل المشكلات، وهو الطريق الأسهل.
والحل الثاني: يمثل الاتجاه الواقعي التجريبي، الذي اعتمده القرآن في مواجهة الأحداث أثناء تنزله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ ... ليصلح من خلال الحركة الواقعية الحية، كما يصلح من خلال البيان النظري.
الحل الأول: يمثل حلماً جميلاً يتمناه الناس جميعاً، ينبني على فرضية أن
الناس تتبع أحسن ما يقال لهم، وأنه بمجرد ظهور الحق ومعرفته، سينصاع له
الكل متحدين متآلفين! وأن النفس الإنسانية حينذاك تكون في قمة الأداء، لا تشوبها
شائبة من طمع أو تحاسد أو مصلحة.. ولكن رصيد ذلك في الواقع قليل..
والحل الثاني: يأخذ في الاعتبار ما أوضحه الله سبحانه في محكم آياته من أن
(الإنسان) قد جبل على صفات مشتركة مركوزة في أساس فطرته، قال تعالى: [إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وإذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً] ...
[المعارج: 70] ، وقال تعالى: [خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ] [الأنبياء: 36] ، وقال
تعالى: [وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] [النساء: 28] ، والإنسان هو الإنسان.. المسلم
يعلو بإنسانيته، لا فوقها - كما زعمت النصارى حين فرضت على قساوستها ترك
الزواج لأجل الله! في زعمهم - ويدافع شهواته وطبائعه فينتصر حيناً، وله الثواب
والفضل لله تعالى، وينهزم حيناً، فثم شرعت الحدود والعقوبات للتطهير والتكفير.. ثم عفو الله العميم.. ذلك والمشرك مخلد إلى الأرض قانع بالدون سادر في عينه. فاعتبار تلك الطبائع والفطر -إذن- بالنظر إلى تلك القوانين الكلية التي تحكم
حركة المجتمعات الإنسانية عامة، وأسباب صعودها واندفاعها، ثم عوامل ضعفها
وانهيارها إنما هو بمثابة الطريق المرسوم الذي يخطو عليه المسلمون عارفين
بدروبه وشعبه، آمنين مزالقه ومخاطره، وهو الهادي لهم في تجمعاتهم العامة
والخاصة، الكبيرة والصغيرة، إذ هي سنن كلية الهية لا تتخلف في زمان دون
زمان، ولا تجامل فئة دون فئة.
ولا يظن ظان أن تلك الدراسات مبتوتة الصلة عن العلوم الشرعية، وأن لا
مكان لها فيما يتعلق بالعلم الشرعي! وإنما هي -كما في علوم التاريخ والعربية
والأصول - علوم خادمة للعلوم الشرعية الأساسية كالتفسير والفقه والحديث، والتي
هي كلها في آخر الأمر إنما تفي بإقامة حياة الناس في الأرض على حسب ما أراد
لهم ربهم سبحانه، فهي تعين على فهم الواقع، وتساعد على استنباط ما يصلح حياة
المسلمين من الأحكام الشرعية، التي تحكم واقع المجتمعات عامة، وخلجات
النفوس خاصة، كما تحكم تصرفات الأفراد وقوانين الدول.
وقد تعرضت تلك النوعية من الدراسات في هذا المجال، والتي ظهرت بشكل
مستقل متخصص في أوربا منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي للكثير من النقد
والإعراض.
وكان ذلك النقد والإعراض مبنياً على مبدئين رئيسين:
أولهما: أن ما يعرف حالياً بالدراسات الاجتماعية والإنسانية، هو وليد الفكر
الغربي، وحضارة الغرب - بكل ما تحمله من أوزار فكرية - تجعل نتاجها
محظوراً، وإن صلح بعضه، درءاً للشبهة، وبعداً عن مواطن الزلل. كما أن
كثيراً من رواد تلك الدراسات في الغرب من الشخصيات المشبوهة التي ينبعث
فكرها من خبث فلا تنتج للناس إلى خبثاً.
ثانيهما: أنه - على العكس من ذلك وفي مقابله -يقدم الإسلام لأبنائه، كمنهج
شامل للحياة الإنسانية من لدن حكيم خبير، تصوراً واضحاً، وأساساً سليماً يصور
الحركة الاجتماعية في سكونها وتطورها، وفي صعودها وهبوطها، ويصف الحياة
الإنسانية في أدق خلجاتها النفسية من المصادر البشرية، انحراف عن الصواب،
ونكوص عن الحق، لا يليق بالطليعة المسلمة التي تنشد أن تكون مناراً وضيئاً
يفىء إليه المسلمون من كل حدب وصوب.
وكلا الأمرين حق لا ريب فيه، فالدراسات الاجتماعية والإنسانية والغربية -
في العديد من جوانبها - تختلف عن الإسلام في المصادر والوسائل، ومن ثم في
الأهداف والنتائج.
كذلك فإن الزاد الهائل الذي رصده القرآن -كما أشرنا إليه - ليضع به تصوراً
واضحاً لأسس الاجتماع الإنساني على أساس أن (الإنسان) هو خلق الله تعالى،
وتحليل النفس الإنسانية كما هي عليه من ناحية، وكما ينبغي أن تكون من ناحية
أخرى، لجدير بأن يغترف منه الباحثون ما يقيمون به علماً يوجه حركة المجتمع،
وخلجات النفس إلى الأمثل والأكمل.
إلا أن ذلك كله لا يمنع من أن يتعرض المسلمون لنتاج الفكر الغربي في هذا
المجال دارسين وناقدين، مصححين أو مزيفين، بشرط دقة التحري في البحث،
وأن يكون الباحث كالصيرفي الماهر الذي ينقد صحيح الذهب من زائفه، وأن يكون
على علم شرعي يتمكن به من تمييز ما يخالف عقيدة أهل السنة ومنهج نظرهم، أو
يصادم معلوماً من الدين بالضرورة ويهدم أصلاً من أصول الشريعة، مما هو
مشترك بين بني آدم بحكم اتفاق الفطرة، واتحاد الأصل، ووحدة السنن، وبما
يتمشى مع توجيهات الله سبحانه للمسلمين بما يحفظ له علو المكانة وشرف المنزلة
التي يسود بها سائر المخلوقات.
وإننا لنجد ذلك المنهج جلياً في تلك الدراسة العميقة التي كتبها الدكتور (محمد
عبد الله دراز) عن (دستور الأخلاق في القرآن) والتي بحث فيها النظرية ...
الأخلاقية في مباحث الغرب، بنظر المسلم المتمكن من فهم دينه، فأقر بالصحيح،
وكشف عن وجه الضعف والخلل، أو النقص والقصور، ثم وضع أساساً للدستور
الأخلاقي الإسلامي كما أوصت به نصوص الكتاب الكريم بناء على تلك الدراسة
المقارنة.
فعلى سبيل المثال، نجد الباحث في حدود حديثه عن مصادر الإلزام الأخلاقي
قد تعرض لكاتبين من كبار مفكري الغرب، أولهما: هنرى برجسون في كتابه (مصدرا الأخلاق والدين) حيث قال عنه دراز: (استطاع الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، في تحليله العميق لقضية الإلزام الأخلاقي أن يكشف له عن مصدرين:
أحدهما قوة الضغط الاجتماعي، والآخر قوة الجذب ذي الرحابة الإنسانية المستمدة
من العون الإلهي) [4] .
إلا أنه عقب على ذلك -بعد التحليل - بأن عرض برجسون لا يفي بالمقصود، بل ويخالف المنحى القرآني في بعض جوانبه؛ قال: (أما إذا تناولناه - على أنه
نظرية في الإلزام الأخلاقي -فإن تحليله يحمل بعض الصعوبات، وشيئاً من
الانحراف عن الجادة، بالنسبة إلى وجهة النظر القرآنية) [5] .
كذلك فقد تعرض لما كتبه المفكر الفرنسي (عمانويل كانت) عن الإلزام
الأخلاقي في كتابه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق) فقال: (ولقد أحسن (كانت) صنعاً
برغم النقص في طريقة تقديمه لنظريته حين أكد أنه كشف عن مصدر ... الإلزام الأخلاقي في تلك الملكة العليا في النفس الإنسانية) .
ثم أوضح أن ذلك يتفق تماماً - حسب ما يرى- مع النظرة المستخلصة من
القرآن في تكوين الإحساس بالخير والشر لدى الإنسان في قوله تعالى: [ونَفْسٍ
ومَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا] وتزويدها بالبصيرة الأخلاقية في قوله
تعالى: [بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] [6] .
ذلك المنهج الذي يتعرض لنتاج الفكر الغربي فيحلل وينقد، ويصحح ويزيف
هو ما أردنا إليه، إذ تتسع من خلاله آفاق المعرفة، وتتفتح المجالات المتعددة التي
يجب أن يعني بها المسلمون أكثر من عناية الغربيين فالحكمة ضالة المؤمن، أينما
وجدها فهو أحق بها ممن سواه.
إلا أنه يتعين علينا، قبل أن نمضي في بحثنا قدماً، ألا ندع مجالاً للبس أو
الغموض لدى القارئ في تحديد نوعين من المصادر التي أشرنا إليها آنفاً:
أولهما:
تلك المصادر التي يرجع إليها في تحديد القواعد العامة والقوانين الكلية التي
تندرج تحتها تلك الأشكال من العلاقات الاجتماعية والإنسانية، والتي تستقي منها
الإجابات والحلول لشتى المشكلات والأوضاع الواقعية، ونعني بها: كتاب الله
وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته ثم ما انبنى عليهما من منهاج استقر
عليه الصحابة والتابعون، وتمثل في حياة وسير أعلام الأئمة على مر العصور.
وثانيهما:
تلك المصادر التي يمكن أن تسهم في إثراء مجال التجربة الإنسانية، في
الواقع الحي، بحيث يشمل نطاق البحث الإسلامي كافة ما يمكن أن يشمله من
أوضاع وعلاقات، سواء نشأت في الواقع الإسلامي، أو في الواقع الغربي بحكم ما
هو مشترك بينهما في الصفات الإنسانية العامة.
فالمصادر الأولى:
هي مصادر الحلول والهداية، إلى جانب التجربة الواقعية.
والمصادر الثانية:
هي مصادر تغني مجال التجربة، وإن تقيدت في نتائجها النهائية ... وتحليلاتها بمعطيات المنهج الإسلامي لتوائم الواقع الإسلامي الذي تُطبق عليه.
ولا بأس - إذا وصلنا إلى ذلك القدر من البحث - أن نعرض لمثالين من
إسهامات باحثي الغرب في المجال الذي أشرنا إلى أهميته في بحثنا، مما نجده
صالحاً للاستعانة به في فهم مجال تلك الدراسات المطلوبة وتحديد منهاجها ومجالها.
أول تلك الدراسات لأحد العلماء الألمان وهو (ماكس فيبر) 1864 - 1920 ...
حيث ذكر خلال تحليله القيم للبناءات الاقتصادية الكبرى، وما يرتبط بها ... من عوامل اجتماعية، تؤخذ في الحسبان لتؤتي تلك البناءات ثمارها، إلى ... أن المجموعات البشرية - بشكل عام - حين تعمل لهدف من الأهداف بشكل ... جماعي، فإنها تمر بأطوار محددة لا تكاد تختلف- حسب ما ذهب إليه ... ... الكاتب - في حالة المجموعات الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
أولها: سلطة الزعيم أو البطل الموهوب: الذي يقوم العمل على أكتافه
وبمواهبه الذاتية وقدراته الشخصية، التي عادة ما تكون قدرات فائقة، وفي هذه ...
المرحلة يكتفي الاتباع بترسم خطى الزعيم واتخاذ أقواله منهجاً وأفعاله معلماً،
وغالباً ما تنعدم روح النقد وتندر روح الابتكار في تلك المرحلة للثقة في الزعيم
المؤسس، ويكون الولاء مقدماً على الكفاءة، من حيث أن الحاجة إليه في إحكام
الترابط أشد من الحاجة إليها، وقد استغنى عنها بمواهب الزعيم.
الثانية: وهي التي تنشاً حين اختفاء الزعيم المؤسس لسبب من الأسباب، وفيها تتجه المؤسسة إلى أحد شكلين من أشكال التعامل والتعارف.
أولهما: التقليد أو التقليدية:
وفيها تجري الأمور على ما قرر ذلك الزعيم دون تغيير أو تبديل، كما يقل
التجديد ولا يتوقع أن ينشأ زعيم من طراز المؤسس، بل حتى إن نشأ فإنه عادة لا
يلاقي قبولاً كافياً لمنحه سلطة العمل المطلق ولا يندفع العمل للأمام إلا بقدر طاقة
القصور الذاتي، المخزونة فيه من المرحلة الأولى.
ثانيهما: التنظيمية العقلية:
وفيها تنحو المؤسسة منحى التنظيم المبني على التخطيط والعقل وإعطاء كل
مشارك دوراً فعالاً، دون ادعاء لوراثة الزعيم المؤسس من أحد أتباعه، أو
لضرورة تقليد خطواته كما رسمها، وتكون الحركة على أساس تقييم صحة العمل
ونتائجه لا على أساس نسبته لما قرره المؤسس.
وعلى أساس الخط الذي تختاره المؤسسة - في المرحلة الثانية - من هذين
الاتجاهين يكون مدى نجاحها أو إخفاقها في الوصول لهدفها المحدد [7] .
وما سبق هو عرض محض - بما يناسب الواقع الإسلامي - لما ذكره العالم
الألماني، يلحظ فيه قوة الملاحظة، واستقراء الواقع، مع محاولة استنباط السنن
العامة التي تربط الحوادث الاجتماعية برباط واحد، وتخضعها لقانون عام، حتى
يمكن تعرية آثارها والاستفادة منها فيما شابه تلك الحالات بأن ظاهرة العمل
الجماعي، كما وصفت في تلك الدراسة، هي ظاهرة اجتماعية عامة، تنشاً - عادة
- حول نواة ديناميكية متحركة تجتذب حولها - حسب قوة جاذبيتها الخاصة-العديد
من الوحدات العاملة، لتدور في فلكها، وتتغذى بحرارتها، وتهتدي بمسارها، ثم
لا تلبث تلك النواة أن تختفي لسبب أو لآخر، فماذا يكون مصير تلك الوحدات
العاملة؟ وهل ينفرط عقدها ويتناثر جمعها؟ ! الاستقراء الذي تدفعه تلك الدراسة قد
دل على طريقين: أحدهما يخضع لذلك التقليد الممقوت الذي يجعل التابع أقرب
للآلة منه للإنسان، فلا يصح عنده إلا ما كان ولا مكان لجديد تحت الشمس! وما
كان البطل الموهوب ليخطئ، بل وما كانت الظروف التي لابست وجوده وعمله
لتتغير بما يستدعي إعادة النظر في منهاج عمله، وإن ظل الهدف ثابتاً.. إلى آخر
تلك الظواهر التي هي إلى خواص النفس المريضة أقرب من النفس المخلصة.
والطريق الآخر يرجع -في حقيقة أمره - إلى دقة المؤسس الأول في رسم
الخطوات التالية التي تضمن مسيرة المؤسسة للأكمل، كما يتأثر بمدى عمق الفهم
وسعة الأفق واستيعاب المنهج لدى الصف الثاني من العاملين، حين تغير الظروف
وتبدل الأحوال، فتنشأ حينئذ التخصصات، وتنمى المواهب، ويترك المجال
مفتوحاً لكل اجتهاد يدفع عجلة التقدم، وتتسع الصدور للنقد البناء، وتتساقط دعاوى
العصمة.
إلا أنه من الضروري الإشارة إلى قصور تلك الدراسة عن أن تشمل ذلك
النمط الخاص الذي تفرد به أنبياء الله -صلوات الله عليهم-، فإن إطلاق ذلك
التصور على كافة ما يطرأ على الاجتماع الإنساني في كل المجالات كما صور
الباحث تجوُز لم لا يصح، إنما منشؤه عدم إدراكه لمعنى النبوة ودورها، فإن
الأنبياء عليهم السلام، الذين هم أقطاب البشرية التي دارت حولها تجمعات ... إنسانية هائلة، واهتدى بهديهم البشر في كل زمان ومكان، لا يخضعون لذلك التحليل، إذ إنهم سادة المربين الذين أحسنوا توجيه الاتباع إلى خيري الدنيا والآخرة.
وثاني تلك الدراسة يختص بدراسة تصرفات الأفراد حين يعملون بشكل
جماعي لتحقيق هدف من الأهداف، خلاف الأولى التي عنيت بشكل وتطور
المجموعة البشرية كمؤسسة جماعية لا بأفرادها داخل تلك المؤسسة، وقد أوضح
صاحبها وهو العالم الأمريكي (توم يرنز) أن نشاط الأفراد يتجه داخل المؤسسات
الجماعية-أيا كانت طبيعتها وهدفها - إلى ثلاثة أشكال:
الأول - النشاط التعاوني:
ويعني أن الأفراد تنزع فيما بينها-وقد اجتمعت على هدف من الأهداف - إلى
أن تتعاون لتحقيق ذلك الهدف، إذ هي تدرك بالفطرة أن قواها الذاتية منفردة لا
تقوى على تحقيق الهدف إن لم تنضاف بعضها إلى بعض.
الثاني - الاتجاه التنافسي:
وهو يعنى أن الأفراد حين يعملون بشكل جماعي، وبرغم ضرورة التعاون
التي يدركونها فيما بينهم، فانهم ينزعون -كأفراد أو كمجموعات -إلى التنافس على
تحصيل أكبر قدر من الإمكانيات المتاحة داخل تلك المؤسسة لصالح فرد من أفرادها
أو مجموعة من مجموعاتها على السواء.
الثالث - التعامل السياسي:
ولا يعني مصطلح السياسة في هذا المجال ما يتبادر إلى الذهن مما هو
معروف من معاني السياسة الدولية الخارجية أو الداخلية، إنما يعني - بإيجاز -
استخدام تلك الأساليب غير المباشرة التي يلجأ إليها الفرد - أو الجماعة - في
ظروف خاصة، لتحقيق هدف معين، مثال ذلك من يحاول إبراز قيمة عمله
الشخصي، وأهميته بالنسبة للصالح العام للمؤسسة، وكم يلاقي من متاعب في
سبيل إنجازه، حتى يصل إلى هدف خاص -قد يكون مشروعاً في غالب الأحيان -
كتثبيت وجوده داخل تلك المؤسسة، أو اكتساب قدر أكبر من الأهمية يمهد به لكسب
معنوي أو مادي [8] .
ومع التأكيد على أمرين:
أولهما: خطر التعميمات والإطلاقات التي تطلقها تلك الدراسات على نتائجها
واستقراءاتها.
والثاني: أن تلك الدراسة إنما كانت مادتها التي استمدت منها مشاهداتها، هي
الجماعات الأوربية - أو الغربية على الأصح - التي تتميز بثقافة خاصة لها جذور
نفسية معينة، كما أن لها وسائلها الخاصة في النظر للأهداف والوسائل على حد
سواء.
إلا أنه لا يمكن القول بأن تلك الدراسة وإن كانت تتناول مجالاً معيناً من
مجالات الاجتماع الإنساني في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، إلا أنها في حقيقتها
وصف لذلك التدافع الذاتي الذي أقام عليه الله سبحانه أمر الدنيا والناس، وهي
صورة العلاقات البشرية المعقدة التي تحتاج إلى تشريح وتفصيل في كل دقائقها،
ليتمكن الناس من نهج ما يصدر عنهم وعن غيرهم -أفرادا وقيادات - في مختلف
المواقف والحالات.
ولاشك أن تحليل تلك القوى العاملة -على السطح وتحته - في المجتمعات
الإنسانية يعطي تصوراً للمسلمين، يمكنهم من تقوية مجتمعاتهم وتحديد القوى
السالبة التي تدفعهم للوراء، وتقليل آثارها ما أمكن.
فالتركيز على فهم سنة (الاتحاد) وضرورته كبديل وحيد للوصول إلى الغاية
المنشودة إنما يتأتى بإبراز ذلك النوع الأول من النشاط التعاوني وتقوية الشعور به
وتنميته. كذلك فإن الحد من آثار ذلك الاتجاه التنافسي، أو تحويل قوته الدافعة إلى
قوة مفيدة للعمل بدلاً من أن يكون سبيلاً للتحدي بين الأفراد، والمنافسة الذميمة
بينهم، أو مجالاً لاختيارات القوى التي يظهر فيها ضعف النفوس، وصغر
الاهتمامات، لهو هدف من الأهداف التي تستحق أن يبذل فيها الباحثون جهدهم
للوصول إلى كافة تفصيلاته التي يمكن أن يبرز فيها في مختلف المجالات.
كما أن إدراك السبل والوسائل التي يتخذها الناس للوصول إلى أغراضهم -
وإن كانت مشروعة - لهو ضرورة حتمية يحتاجها الدعاة إلى الله ليكونوا على
بصيرة في تعاملاتهم، إذ إنه مما لاشك فيه أن الوصول للغرض بشكل مباشر
مستقيم قد يكون أقصر طريق وأوضحه، إلا أنه يمنع منه موانع كالحذر من سوء
فهم الآخرين، أو الحرص على عدم تجاوز حد معين في العلاقات، أو غير ذلك..
ومحاولة تقليل آثار تلك الممارسة السياسية في العلاقات - إلا فيما تصلح ... له - أنفع للمجتمع الإسلامي، والنفس المسلمة وإن كانت في حالة إيمانها أرفع مما يدركه ذلك العالم الإنكليزي، إلا أنها لا تسلم من أن تتعرض لتلك النوازع البشرية العامة خيرها وشرها.
من هنا تنشأ أهمية توجيه الهمة إلى تحليل تلك العلاقات والنوازع التي تنشأ
من ضرورة التعاون أولاً، ومن طبيعة النفس ثانياً، ثم من سنن الاجتماع ونتائجه
أخيراً.
ونحن لا نقصد في هذا المقال إلى استقصاء مثل تلك الدراسات، أو بسط ما
فيها بالشرح والنقد، وإنما قصدنا إلى أن نؤكد على ضرورة أن نولي هذه النوعية
من البحث مزيداً من الاهتمام، وأن تبني على هدى القرآن والسنة، ومراجعة ما
أفرزته العقول البشرية في هذا المضمار، كما ضربنا أمثلة من ذلك التناول ومنهجه، لما يمكن أن يكون مجالاً للبحث والتحليل في التركيبة الإسلامية الاجتماعية
المعاصرة.
ولعل الله سبحانه أن يلهمنا الصواب في القول والعمل جميعاً.