مواقف في الفكر
الإسلامي الحديث
محمد بن حامد الأحمري
أصبح الإسلام موضوع الساعة في العالم، الكل يكتب ويخطب ويناقش،
وسيطرت قوة الحقيقة الإسلامية على الساحة، تحقيقاً لوعد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لهذا الدين بالظهور إلى قيام الساعة، سواء بالحجة والبيان، كما في
العهد المكي، أو بهما إضافة إلى القوة والسلطان كما في العهد المدني [1] وما تلاه، ثم في غالب التاريخ الإسلامي، ففي حال عدم ظهوره بالقوة والسلطان فإن قوة
الحجة والبرهان معلومان بالضرورة من بديهيات الإيمان.
ولا غرابة أن نجد كاتباً كافراً يبدو نصرانياً يقول: (الإسلام يفرض على
المجتمع الحديث احترام حقوق الله وحقوق الإنسان، التي نص عليها القرآن لذلك
تسعى الاشتراكية أن تكون إسلامية، وتسعى الديموقراطية أن تتلون بالدين) [2] ،
ثم صدرت مقولات كثيرة، وظهرت سلوكيات تبدو محابية للإسلام ممن عرفوا
بعدائهم له جهراً، ثم عادوا يتملقونه ويتظاهرون بعدم الاختلاف معه.
وربما جعل أحدهم نفسه فقيهاً ومفتياً في مهمات أمور الإسلام، ركوباً للتيار.
وأكتفي بسوق مثال واحد من هؤلاء ألا وهو المطران كابودجي الذي شُهر بالدفاع
عن القدس، وقال: إنه تزوج القدس كما تزوج غيره قضية فلسطين، وزعم أن
الله عهد إليه بتحرير القدس. يقول: (كلنا مسلمون، منا من أسلم على طريق القرآن ومنا من أسلم عن طريق الحكمة.. الرب أبونا) [3] وعلى ما في ... الكلمة من خداع لفظي ولكنها من أمثلة التزلف للإسلام من عدو محارب له.
إن هذا التوجه والاندفاع للحديث عن الإسلام ودراسته مع إبقاء الأهداف
المريبة، يستوجب إظهار قوة ونفوذ الفكر الإسلامي، وإحسان التعامل مع موجة
العداء الجديدة، والهيمنة عليها. ولأن مفاهيم الإسلام جاءت مهيمنة على غيرها،
فأساس هذه المفاهيم ومنبعها أنزله الله مهيمناً على ماعداه. ...
المواجهة مع أعداء الله فكرية أو عسكرية لا تعرف الهدوء ومن توقع أن
الهجمة انتهت أو ضعفت فهو غافل غائب عن ميدان الصراع. ومن المؤسف أن
المواجهة الفكرية، المطلوب من المسلمين القيام بها لا تتناسب في هذه الظروف مع
شراسة الهجمة واتساع دائرتها. ويمكن القول أن عدداً قليلاً ونادراً من الإنتاج
الفكري الإسلامي اليوم يستحق الاهتمام والدراسة، أما الغالب فجهود يغلب عليها
أسلوب التغزل بمبادئ الإسلام ومثله أو الدفاع والاعتذار، وتملق الناس ومهادنة
أحوالهم السائدة، وليس بما يمليه الإسلام من علوٍ له على ما سواه وتنفيذ لحكمه
مهما بدا في نظر البشر غريباً.
هذه الكتب أو الأعمال الفكرية أيا كان -نوعها التي تسودها السطحية
وغموض الهدف تنتشر بواسطة الشهرة والصداقة والمعرفة الشخصية في مجتمع
اعتاد بعضه على الإملائية الفكرية، التي تملي على المسلمين القراءة للكاتب المردد
لا للكاتب الرائد، تملي وتوجه إلى القراءة للفكر المهادن للجمود الفكري وليس للفكر
الواعي الموقظ.
نتيجة لهذا النوع من الفكر تخرج للساحة أعدادٌ هائلة من المسلمين تتناسب في
كل أمورها مع تلك الثقافة الواهنة الخجلى التي تغذت بها وتعاني مما تعانيه تلك
الكتب.
ورحم الله إقبال إذ يقول:
جوهر الآساد أضحى خزفاً ... حين صار القوتُ هذا العلفا
إن هذا النوع من الفكر لا يمكن أن يوجد لنا ما نهدف إليه وما يحتاجه
المسلمون من قوة معنوية فكرية تكون أساساً للقوة المادية. إن قوة [وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] كانت روحاً قوية سرت في قلوب الصف الأول فأوجدت ما تبع
من قوى. إن القرآن هو مصدر التثقيف والبناء الفكري والتربوي للرسول -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه، وعائشة -رضي الله عنه-تقول حين سئلت عن خلقه -
صلى الله عليه وسلم-: كان خلقه القرآن.
فأي جيل يمكن أن يخرجه ركام الوهن والجهل والتقليد والتلقية هذه الأيام،
لكم نسخط على التقليد الذي أوهن العقل والروح عند المسلمين. ثم نمارس نفس
العيب إنما بأسلوب آخر ما أحرانا أن نخترق هذا الركام ونستصفي منه ما يعنينا ... لا ما يثقلنا (فإن الغلبة والاستيلاء المعنوي يقوم بنيانه في الحقيقة على الاجتهاد ...
والتحقيق العلمي. فكل أمة تسبق غيرها إليه تتولى قيادة العالم وزعامة الأمم،
وتستولي أفكارها هي على العقول. أما الأمة التي تتخلف في هذا الطريق فلا تجد
مناصاً من اتباع الغير وتقليده إذ لا يبقى في أفكارها ومعتقداتها من القوة والأصالة
ما يكسبها السيطرة على الأذهان فيجرفها تيار الأفكار القوية التي تقوم بها الأمة
الباحثة المجتهدة) [4] . أما الأفكار المهزومة فهي التي تنجب أجيال الهزيمة فكراً ...
وفعلاً.
ومما زاد هذا الوهن الفكري تعقيداً وقوعه تحت ما يمكن أن نسميه مشكلة
الميراث الثقافي أو التراث. وأحيانا تحت أثر الثقافة الأجنبية الغربية، فكثيراً ما
نجد التراث يسوق الكاتب أو العالم في عراك تاريخي لا علاقة له بالواقع. أو في
الجانب الآخر نجد الكاتب يقرر أفكاراً في بعض الأوقات لا تكون إسلامية ثم يبحث
عن الشاهد من الآية والحديث لسببين: إما أن تكون مؤيدة لفكرته، لا مؤسسة لحكم
أو موقف فيكون رأيه هو الأساس والآية مؤيدة وليست مؤسسة؛ أو أن تكون مسوقة
للزينة أو ما يسمى بحسن الاستشهاد. وقد تجد الآية أو الحديث على ندرتهما غير
متناسقين مع السياق.
إن قيام المسلمين بنقد إنتاجهم الفكري وإبراز الحق فيه وتقويم الأخطاء
المتتالية لضرورة ملحة وسط هذا الزخم الذي يتراكم دون أنً يجد مقوماً. كيف لا
يدرك من يكتبون عن الإسلام أهمية نقد أعمالهم. والنقد وتذكير النفس بعيوبها قاعدة
قرآنية ثابتة: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران: 165] .
ألا يرى هؤلاء الكتاب أن الله قد خاطب بهذه الآية محمداً وأصحابه حثاً لهم
على ملاحظة عيوب النفس والصف واستكمال المحاسن ونفي النقائص ولئلا يعلق
المسلمون مصائبهم على مشاجب الاستعمار والشيوعية والقومية.. إلخ.
وفي طريق الهروب من النقد نلبس هذه الكتب والأفكار لباس الإسلام وقداسته
وكأن كل نقد لها فيه مساس بقدسية الإسلام وجنابه، وهذا الاتجاه لا يعنى مهابة نقد
هذه الأعمال فلم يشفع للأحاديث الضعيفة والموضوعة أن لجأت تحت مظلة الحديث
الشريف. بل هتك علماء السنة أستارها. والنقد البناء ضرورة لتخليص الناس من
الآراء التي جانبت الصواب. وفي هذا الطريق توضع الأسماء والكتب الصغيرة
والكبيرة تحت معيار الكتاب والسنة مع احترام من وفُقّ وعذر غيره وبيان الحق.