مجله البيان (صفحة 1423)

أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي

نقد كتابات جودت سعيد

عادل التل

تعريفات أولية:

نطمح في هذه الدراسة إلى وضع معايير ثابتة لتمييز وفرز الكُتاب والمفكرين

الذين يتقدمون إلى الناس بالمنهج المادي، من خلال الخطاب الإسلامي، والدعوة

الإسلامية، وبعبارة أدق، أولئك الذين يحملون النزعة المادية عند التعامل مع

النصوص الشرعية. كما نهدف من هذه الدراسة - ومن خلال رؤية معاصرة -

إلى إبراز منهج أهل السنة والجماعة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة

التحديات الاعتقادية الوافدة.

وهذه الدراسة لا تشمل الذين يرفضون الامتثال لمنهج الله، وبالوقت نفسه لا

تهتم بالرد المباشر عليهم. وبما أن جودت سعيد يعتبر من أولئك الكُتاب المنتمين

للفكر المادي والداعين إليه فإن معظم الشواهد في هذه الدراسة ستكون من خلال

كتبه ورسائله. وقبل أن نبدأ في تحديد الارتباط بين فكر جودت سعيد وبين المنهج

المادي، نحتاج إلى إجراء مقارنة خاطفة بين الاتجاهات المعاصرة التي تهتم بتحديد

مصادر المعرفة.

ولدينا ثلاثة مناهج ظاهرة تتنازع الهيمنة على الساحة الثقافية في العالم

الإسلامي المعاصر:

أولاً: منهج التفكير الإسلامي (الديني) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على

النصوص الشرعية، المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون القيمة

الأساسية فيه لهذه النصوص، وتقدَّم على كل ما عداها من مصادر المعرفة عند

الاختلاف.

ثانياً: منهج التفكير الفلسفي (العقلي) : ويتمثل هذا المنهج بالاعتماد على

المذهب العقلي، وتكون القيمة الأساسية فيه للعقل كمصدر للمعرفة، ويقدم على

غيره من المصادر عند الاختلاف.

يقوم المذهب العقلي على تفسير كل شيء في الوجود من خلال العقل، سواء

في إثبات الشيء أو نفيه، أو تحديد معانيه..

ثالثاً: منهج التفكير المادي (الوضعي) : ويتمثل بالاتجاه المادي، الذي ينظر

إلى العالم الخارجي باعتباره يمثل الحقيقة الكبرى الكاملة، وأن هذه الحقيقة ...

الموضوعية ذات وجود مستقل عن وعي الإنسان، وغير خاضعة لشيء، وأن ...

المعرفة الصادرة عن المادة تقدم على كل معرفة أخرى عند التنازع.

والمذهب المادي: هو نظرية تقوم على اعتبار أن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن الوجود ومظاهره وعملياته، يمكن تفسيرها كمظاهر أو نتائج للمادة.

ما هو المعيار الذي يحدد بموجبه الانتماء إلى أحد هذه المناهج؟

المعيار الذي يحدد الانتماء هو أسلوب التعامل مع النصوص الشرعية:

أ- في المنهج الإسلامي: نتعامل مع النصوص الشرعية بإثباتها وكما فهمها

الصحابة الذين عايشوا التنزيل وكما فهمها التابعون من الصحابة، وهذا هو منهج

أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح وأسلوب المدرسة التجديدية.

ب - في المنهج الفلسفي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بطريق

التأويل وفقاً لمعطيات العقل، وبتقديم العقل على النقل، وهذا منهج الفرق الضالة

كالمعتزلة والرافضة وأمثالهم، وأسلوب المدرسة العقلية المعاصرة.

ج: في المنهج المادي: يكون التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها

واعتبارها كأنها غير موجودة، والحصول على المعرفة من مصادر أخرى مثل

التاريخ أو السير في الأرض أو أحداث الكون، مما يستدعي -حسب رأي أصحاب

هذا المنهج - إلغاء النبوة والاعتماد على السنن (القوانين الطبيعية والاجتماعية)

بديلاً عنها (آيات الآفاق والأنفس) ، وإعطاء تفسير جديد لمفهوم الوحي ومفهوم

التلقي من الله، والاعتماد على قوانين تطور الطبيعة وقوانين تطور المجتمع في

سلم الدلالات الموضوعية، وهذا هو منهج المدرسة المادية التغييرية.

ولتحديد رأي جودت سعيد، وبيان موقفه من هذه المناهج، قمت بدراسة

جميع كتبه ورسائله ومقابلاته، ونستشهد هنا ببعض المقتطفات منها.

ونبدأ من خلال إشادته بالمنهج المادي الماركسي، فعندما تعرض لشرح آية

[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] قال: ... الفكر الماركسي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم

لها [1] .

موقف غريب وعجيب في آن واحد..! غريب أن يصدر مثل هذا الرأي عن

رجل يعمل في حقل الدعوة، ويسعى لحل مشاكل الأمة الإسلامية، فإذا به يشهد

للفكر الماركسي بالأصالة والثناء عليه، وكأنه بأسلوبه هذا يُشعر الناس أن مصدر

الفكر الماركسي من كتاب الله، وظن أنه بهذه الطريقة - ومن خلال ذكر الآيات

القرآنية - يتمكن من تدعيم منهجه المادي بين المثقفين إسلامياً، لقد توهم أنه يحقق

هذه المهمة بنجاح، ودون عناء أو مشقة، وأنه يحقق بذلك ما عجز عنه أقطاب

الفكر الماركسي ودعاته في بلاد الإسلام، حين حاولوا - بالوسائل كافة وجميع

السبل- إيجاد الصلة بين المنهج الإسلامي والأفكار الماركسية، ولكن جودت سعيد

لا يزال مستمراً في هذه المحاولة، وهو هنا يشيد بهم ويطريهم على أنهم أول من

أدرك محتوى هذه الآية من القرآن الكريم، وعمل من خلالها. ويجب أن لا يصيبنا

الدوار من هذه الآراء، وأن لا نستغرب هذا الأمر..! لأن الأغرب من ذلك هو

دعوته الشباب المسلم إلى القيام بعملية التغيير، انطلاقاً من هذا المبدأ، إنها دعوة

سافرة لتبنّي منهج المادية، ويعتبر كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) تحقيقاً لهذه ...

الدعوة، فهو يدعوه من خلاله إلى التمسك بجانب الصواب في النظرية الماركسية

الشيوعية. ففي هذا الكتاب يقول: (وكذلك إذا تذكرنا أن علينا أن لا نبخس الناس

أشياءهم، وأن الحكمة لا تضر من أي وعاء خرجت، فإن الاعتراف بجانب

الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئاً، ولكن إذا رفضنا جانب

الصواب بسبب جانب الكفر الذي عندهم لا نكون مصيبين) [2] .

أية حكمة عند الماركسيين وأي صواب لديهم؟ ؟ فما لديهم إلا منهج يحمل

عوامل فنائه منذ قيامه، وهو لا يتلاءم مع الفطرة التي فُطر الناس عليها، لذلك

تزلزل وانهار كما كان متوقعاً له من قبل، لقد كان الماركسيون دائماً يسخرون من

المتمسكين بالفضيلة والحريصين على القيم ويقولون لهم: (أيها المثاليون المغفلون، ... إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له في الحقيقة.. حين تتكلمون عن الحق ...

والفضيلة والصدق والأمانة، إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له، ...

ولكنها هي في ذاتها ليست شيئاً ثابتاً محدداً يمكن التعرف عليها) . ...

لقد شعر جودت سعيد - وهو يتقدم إلينا بهذه الأفكار المادية - بعامل الضعف

والخجل من هذا الطرح لأنه يدرك أن هناك من يخاف على دينه من هذا التوجه

نحو الفكر المادي، لذلك تراه يستخدم عبارات الاطمئنان، ويؤكد أن الخوف على

آيات الله مستبعد في ظل الأفكار الشيوعية فيقول: (لم يعد هنا ما يجعلنا نخاف

على آيات الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي

الحق) [3] .

والكاتب صريح في هذا كل الصراحة، وكأن لسان حاله يقول: خذ أفكار

الشيوعيين ودَعْ كفرهم، وربما يستمد هذا من المثل الشعبي المعروف: (خذ من

أقوالهم وما عليك من أفعالهم) . وقد عبر عن ذلك بقوله: (ولكن حين يصل ...

(الماركسي) من أقواله إلى القول: بأنه أصبح بناءً على ذلك من الواجب نبذ كل

نظرية إيمانية على الإطلاق - هنا نقول له: إن هذه النتيجة من تلك المقدمة هي

الفكرة الطوباوية الناشئة عن الكراهية والعاطفة لا عن الدراسة الموضوعية) [4] .

ومن المعروف أن الماركسية ليست شعاراً فقط، بل هي واقع عملي واعتقادي

ولا يمكن الفصل بينهما، وهم ينطلقون من شعار عريض (لا إله في الوجود والحياة

مادة) ، فلو فكروا أن يخدعونا - كما خدع الكاتب من قبل - ويبدلوا شعارهم إلى

عبارة أخرى مثل: (يوجد إله ولكن الحياة مادة) فهل يتبدل من الأمر شيء؟ وهل

يجوز لنا أن نقبل بالنظرية المادية من الشيوعيين من أجل التبديل الصوري؟ ! ،

لا يكون ذلك إلا إذا أجبنا - وعلى سبيل الدعابة - أن نطلق على من يكون إيمانه

على هذا النحو تسمية جديدة، (الماركسي المسلم) أو (الشيخ الأحمر) ! .

إن تقديم الأفكار الماركسية من خلال إلباسها العباءة الإسلامية أمر في غاية

الخطورة، وتمثل هذه العملية حالة خداع كبيرة، لا تزال الأمة الإسلامية تعاني من

آثارها باستمرار. ولا يزال صدى تلك المواجهات قائماً في الأذهان، حين حاول

البعض أن يقدم الإسلام إلى الناس في ثوب الاشتراكية، أو من خلال نظام

الديمقراطية، وقد اشتد نكير العلماء في مواجهة هذه المحاولة مما جعل معظمهم

يتراجعون عن موقفهم ويتبرؤون مما كتبوه في هذا الاتجاه.

وأما جودت سعيد فكان له أسلوب آخر، وطريقة مبتكرة للتعامل مع هذه

المسألة، حيث دعا صراحة للتمسك بالفكر الماركسي من خلال الدعوة للأخذ بجانب

الصواب الذي اكتشفه في النظرية الماركسية، يقول في كتابه (حتى يغيروا ما

بأنفسهم) [الرعد: 11] [*] في أسلوب التباهي: (وحين يقول الماركسي: إن د راسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علماً، ينبغي ألا نقول له أخطأت، بل نقول له: هذا حق، وإذا اعتبر أن مظاهر الطبيعة قادرة على إعطائنا حقائق موضوعية، علينا أن نراه تقريراً بأن آيات الآفاق تعطي حقائق موضوعية، ونزيد له أيضاً: بأن آيات الأنفس كذلك تعطي حقائق موضوعية) [5] .

هذا هو المنهج المادي من بدايته إلى نهايته.. وهذه هي الماركسية، تطل

برأسها من خلاله! والكاتب لم يدعنا في حيرة من أمرنا للتأكد من موقفه هذا،

واعتناقه جميع الجوانب في النظرية الماركسية، فها هو يقرر أسبقية المادة في

الوجود كما تقررها المادية الماركسية، ويعتقد بضرورة تقديم المعرفة الصادرة عن

المادة على كل شيء كما يقدمونها.

يقول: (فالوجود الخارجي المادي هو الحقيقة الثابتة، التي نرجع إليها عند

الاختلاف، والصور الذهنية قابلة للزيادة أو النقصان) [6] . والكاتب يلتقي في هذا

المنهج المادي مع الماركسيين إلى درجة التطابق تقريباً وسأترك المجال لرموز

الماركسية في إبراز جوانب الالتقاء بين أفكارهم وفكره، يقول ستالين: (إن المادة

والطبيعة والكائن هي حقيقة موضوعية، موجودة خارج الإدراك أو الشعور

وبصورة مستقلة عنه، وأن المادة هي عنصر أول، لأنه منبه الإحساسات

والتصور والشعور، بينما الإدراك هو عنصر ثانٍ مشتق لأنه انعكاس للمادة) [7] . ...

وقال إنجلز: (وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء) [8] .

ومن الممكن أن يطرح القارئ علينا سؤالاًمحدداً، هل يقدم جودت سعيد المادة

أو الواقع على كلام الله؟ ، يقول في رسالته - مستخدماً أسلوب السخرية من

المسلمين الذين يتمسكون بالنصوص الشرعية -: (فالمسلمون - بكل سذاجة -

يظنون أن لهم القدرة على الاتصال بالمعاني التي أرادها الله بواسطة هذه اللغة،

دون الرجوع إلى الواقع الذي تتحدث عنه..) [9] ، يجب الانتباه إلى استخدام

أسلوب التعميم (المسلمون) دون استثناء، كما يلاحظ تجهيل الأمة التي كانت تعتمد

في جميع مراحلها على اللغة العربية، ولهذا قال -تعالى-: [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ

قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [فصلت: 3] . وأما وصف المسلمين بالسذاجة والجهل

فلا تسأل عن ذلك، فقد ملأ كتابه بهذا اللون من التقريع دون تفريق أو استثناء، ثم

يقول محذراً المسلمين من العودة إلى النصوص أو التمسك بها: (ولكن ينبغي أن

نتعمق في فهم هذه الظاهرة، إن العودة إلى النصوص لم تكن لتحتل هذه الظاهرة،

ولو اقتصر على فهم هذه الحقيقة من الكلام أو من اللغة أو من النص لاستمر القتال، ولوجد ولأمكن أن تؤول النصوص؛ لأن النصوص قابلة للتأويل) [10] .

وها هو هنا يرفض فهم النصوص بواسطة اللغة، كما يرفض مفهوم التأويل،

وهو بهذا ينتصر للمنهج المادي في مواجهة منهج السلف الصالح والمنهج العقلاني

على حد سواء، ولكنه ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة خطيرة وذلك بالتعبير عن كلام الله

بأسلوب الرمزية. لقد تعامل الله معنا بالرموز والحقائق، وقال لنا بأن نرجع دائماً

إلى الواقع والنظر فيه، وأن الرموز إن هي إلا مساعدات مرحلية مؤقتة يمكن أن

تختلف بحسب الزمان والمكان، ولكن سننه الواقعية لن تتغير وكلما رجعنا إليها

نجدها كما هي ثابتة: [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]

[الأحزاب: 43] ، وليست الرموز إلا [أَسْمَاء] [مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ]

[الأعراف: 71] [11] ، وموضع الخطر هو اعتبار كلام الله رمزاً وهو اللغة،

وأن الواقع يمثل الحقائق، ثم يظهر تناقضه الفاضح حين ذكر في أول الكلام أن الله

تعامل مع البشر بالرموز ثم قال في نهاية الكلام: إن الرموز [مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن

سُلْطَانٍ] [الأعراف: 71] ، والله - تعالى - يقول: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]

[البقرة: 31] ، وهكذا يصبح الواقع المادي عنده مقدَّماً على كلام الله، حيث يقول

حول ذلك: (فحين يلح القرآن الكريم على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي

لفهم سننه ونظامه، فإنه يدل بذلك على أن الواقع أدل على ذاته في كلامه

له) [12] ، وهذا تصريح واضح في اعتماد الواقع واستبعاد كلام الله، وقد قاده هذا الاعتقاد إلى موقف أشد خطراً وأبعد ظلماً، وذلك بالإعلان عن انتهاء مهمة النبوة نفسها، والتعامل مع السنن والقوانين.

انتهاء النبوة:

يقول الكاتب: (من هنا لما بدأ الاهتمام بالواقع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن النبوة مرحلة انتهت) [13] ، ويقوم هذا الرأي من واقع إيمانه

بمراحل التاريخ واعتبار مرحلة البشرية خلال فترة الأنبياء مرحلة طفولية،

والمرحلة المعاصرة مرحلة مراهقة، وأن البشرية بدأت تتجه نحو مرحلة الرشد، ...

وقد استمد هذا التصور من آراء (أوغست كونت) مؤسس المذهب الوضعي المادي

في أوربا، وعن مرحلية النبوة يقول نقلاً عن إقبال: (إن النبوة في الإسلام لتبلغ

كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة - ختم - النبوة نفسها، وهو أمر

ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً - إلى الأبد - على مقود

يقاد منه وأن الإنسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد

في الناية على وسائله هو) [14] .

هل يصدق أن هذا الكلام يصدر عن إنسان عاقل؟ أن يقرر انتهاء مهمة

النبوة؟ وتسليم زمام الأمور إلى الإنسان، وهذا ما دعا إليه علماء أوربا الوضعيون

الماديون، وهذه الفقرة بالذات مستقاة من أفكار (فريدريك نيشته) الذي كان يقول

بنظرية الإنسان الكامل أو (إنسان السوبر مان) [**] ، ويقرر الكاتب أن البديل عن

النبوة التي تتضمن نصوصاً من كلام وحروف إلى السنن التي ليست كلاماً وحروفاً، فانظر إلى قوله: (انتبه إلى هذا محمد إقبال، وخاصة في بحث ختم النبوة،

لماذا ختمت النبوة؟ ولم يعد نبي ولا كتاب، لأن الكتاب والنبي الخاتم دلنا على

الطريق الذي لا ينتهي، دلنا على الكلام الذي ليس هو كلام حروف، وإنما حقائق

ملموسة) [15] . أليس هذا تصريحاً باستبعاد كلام الله من العمل، والاعتماد على

الكلام الذي يمثل الحقائق الملموسة؟ أي الحقائق المادية الحسية.

ولنا أن نتساءل كما أن من حق القارئ أن يتساءل معنا كيف يتصور جودت

سعيد النبوة؟ وما هي الصيغة التي يعتمدها في تحديدها؟ .

ينسجم رأيه حول النبوة مع مفهومه المادي، وإيمانه بالتطور ويعبر عن ذلك

بقوله:

(وفي طفولة البشرية، تتطور القوة الروحية إلى ما أسميه (الوعي النبوي) ...

وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي وذلك بتزويد الناس

بأحكام واختيارات جاهزة، وأساليب للعمل أُعدت من قبل) [16] . ...

إذن النبوة قوة روحية واستعداد شخصي واختيارات وأساليب للعمل أو وعي

نبوي لا أكثر ولا أقل، فأين الوحي المباشر من الله (تعالى) ؟ !

يقول ابن تيمية: (والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم

الفاسدة - ابن سينا وأمثاله - لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا

بخبر مَلَك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة وعقلية أكمل من غيرهم في قوة

الحدس ويسمون ذلك.. القوة الحدسية..) [17] .

ومن أجل هذا المفهوم يعتقد محمد إقبال وجودت في ضرورة انتهاء النبوة

وإلغاء دلالة النصوص الصادرة عنها وفي ذلك يقول الثاني: (الذي أريد أن نفهمه

من هذا أن دلالة الكتاب يمكن أن تُلغى إلغاءً تاماً، وكأنها غير موجودة، والذي

سينبه المسلمين إلى هذا، ما جاء في الكتاب من الاهتمام بالتاريخ وأحوال البشر

وحوادث التاريخ، أي أن الذي سيعلّمنا ليس القرآن، وإنما نفس حوادث الكون

والتاريخ هي التي ستعلمنا..) [18] .

ثم يقول بما يؤكد تقديمه للواقع على كل شيء ولو كان كلام الله: (إن صخرة

ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله..) [19] . وقد

لوحظ أن جودت سعيد يتضجر ويتضايق كلما احتج عليه أحد بقوله: قال الله أو قال

الرسول، أو حتى مجرد ذكر الله أو الرسول. ويتضح ضيقه في قوله: (.. لم تعد

ترهبني قعقعة الكلمات: الروح، النفس، الله أو الرسول أو قال فلان وفلان، نريد

أن نتحدث ماذا يحدث لنا، وكيف يحدث الفهم؟ كيف يعرف ما فهمناه أننا فهمناه؟

وكيف انتقلت إليَّ هذه الأفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء، ولنبحث في

الأرض، لنعد إلى الإنسان المولود على الفطرة.

كيف تصوغ البيئة هذا المولود؟ ! ، إن ما يحدث أمامنا بقوى تحيط بنا

وتصدر منا وليس غيباً ولا خارقاً، كما أنها ليست مما لا يستطيع العقل

فهمها) [20] .

لماذا لم تعد ترهبه كلمات (الله) أو (الرسول) ؟ ماذا حدث عنده حتى فقدت هذه الكلمات قدسيتها في نفسه؟ ؟ ألسنا مسلمين؟ ؟ لماذا يريد منا أن ندع الحديث عن السماء، ونخلد إلى الأرض؟ [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ (175) ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ] [الأعراف: 175-176] .

* يتبع * ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015