مجله البيان (صفحة 1422)

حكم اموال المعاهدين والمحاربين (الشيخ ابن جبرين)

فتوى العلامة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين

تقديم: هيثم الحداد

وردنا من أحد القراء السؤال التالي:

ما تقولون في بعض الشباب من المسلمين الذين يعيشون في مجتمعات الغرب، وأحياناً في مجتمعات شرقية غير إسلامية، أو في مجتمعات إسلامية، ويفتون

لأنفسهم بأخذ الأموال أو المتاع ويتحايلون على ذلك بشتى الوسائل، وربما يحتجون

لذلك بأن تلك البلاد علمانية أو غير إسلامية. فهل يجوز ذلك؟ ! وما الدليل؟ وما

هو الأسلوب الذي نبين به - لهؤلاء - الحكم الشرعي الصحيح والتصرف اللائق

بالمسلم. أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.

قبل أن نعرض هذا السؤال على أحد العلماء للإجابة عليه لا بد من توضيح

الأمور التالية:

إن أسباب هذه الظاهرة عند هؤلاء الشباب هي الأمور التالية:

1- عدم أخذهم للقدر الكافي من العلم الشرعي الذي يساعدهم في معرفة هذه

المسائل وأحكامها.

2- عزوف هؤلاء الشباب عن أهل العلم الذين اشتُهروا به، وأخذهم العلم

عن الذين لم يبلغوا درجة كافية من العلم تخولهم الإفتاء في مثل هذه الأمور الشائكة

والخطيرة، فأخذوا العلم من غير أهله.

3- ومع ما تقدم، فلم يقوموا ببحث هذه المسائل بحثاً علمياً من كتب أهل

العلم المعتبرة، حتى يبرئ ذمتهم أمام الله - عز وجل - حينما يقفون بين يديه،

وذلك ببذلهم غاية جهدهم في طلب الحق، والوصول إليه، وحتى لا يتعلق برقابهم

شيء من حقوق العباد - حتى وإن كانوا كفاراً - فلا يستطيعون التخلص منها إلا

بردها إلى أهلها إن أمكن.

4- وقبل ذلك كله، حماسهم واندفاعهم، ولعل ذلك ناشئ من غيرتهم على

هذا الدين، وبغضهم لأهل الكفر والنفاق.

والمفترض على هؤلاء الشباب أن يكونوا من طلاب الحق، غير المتبعين

للهوى، أو المتعصبين لأحد، ولذلك سنبحث هذه المسألة بصورة موجزة، سريعة، وسنعرض أصلها الذي يُبنى عليه حكمها، فما كان فيه من حق أُخذ، وعمل به،

وما كان غير ذلك ترك وطرح، فنقول:

يقسم الفقهاء الدُّور إلى قسمين رئيسيين، دار الإسلام، ودار الكفر.

أما دار الإسلام فهي الدار التي تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة مستعلية.

وأما دار الكفر فهي الدار التي تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة مستعلية.

وإذا استقرأنا أحوال دار الكفر، وأحوال الكفار، تبين لنا أن دار الكفر لا

تنفك عن أحوال ثلاث: الأولى: أن يُعقد لأهلها عقد موادعة أو معاهدة، والمعاهدة

هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة، بعوض أو بغير عوض ولو

كان فيهم من يقر على دينه ومن لا يقر [1] والأصل في مشروعية المعاهدة الكتاب

والسنة والإجماع، أما من الكتاب فقول الله - عز وجل -: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ

فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [الأنفال: 61] ، قال ابن كثير: (وقول من قال بأن ... هذه الآية منسوخة بآية السيف فيه نظر أيضاً؛ إن آية (براءة) فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفاً، فإنه تجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم) [2] .

وأما من السنة فصلح الحديبية، ووجه الاستدلال ظاهر. وأجمع المسلمون

على جواز عقد الهدنة في الجملة. وأما شروط المعاهدة فهي أربعة:

1 - أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه.

2- أن تكون بمصلحة.

3- أن تخلو عن شرط فاسد.

4- أن تكون مدتها معينة، مؤقتة.

وهذه الشروط متفق عليها في الجملة [3] . ويترتب على عقد الموادعة أو

المهادنة دخول المعاهدين في جملة المعصومين، فلا تحل دماؤهم ولا أموالهم إلا

بحقها، وهذا مجمع عليه من الفقهاء، ولم يخالف فيه مخالف، لتضافر الآيات

والأحاديث على وجوب الوفاء بالعهود، والمواثيق، وأصل عقد الهدنة يتضمن أمن

كل طرف من المتعاقدين، على نفسه وماله وغير ذلك، فالاعتداء على نفس

المعاهد أو ماله يعتبر نقضاً صريحاً للعقد والعهد الذي قال الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ

آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، وقال: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] [الإسراء: 34] .

الثانية: أن تكون محايدة، لا تنحاز لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار، وأصل

هذه الصورة، قوله - عز وجل -: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً

فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ

وجَدتُّمُوهُمْ ولا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ ولِياً ولا نَصِيراً (89) إلاَّ الَذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ

وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ولَوْ شَاءَ

اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ

لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] [النساء: 89-90] ، ودون الدخول في تفصيل أسباب نزول هذه

الآيات، فإن هؤلاء المهادنين يُلحَقون بالمعاهدين، ولذلك فإن أغلب الفقهاء لم

يجعلوا هذه الدار قسماً مستقلاً؛ لأنه جرى بينهم وبين المسلمين عهد، يجب الوفاء

بما تضمنه ذلك العهد.

الثالثة: أن تكون حالة الحرب قائمة بين المسلمين وبين تلك البلاد، فهي ما

تعرف بدار الحرب وأهلها هم الحربيون، وهؤلاء هم من غير المعصومين، فتباح

أموالهم ودماؤهم وغيرها في الجملة، ولكن لابد من الوقوف على بعض التفصيلات:

إن من دخل من هؤلاء الحربيين إلى ديارنا بأمان من غير استيطان، لغرض

من الأغراض - كالرسل، والتجار وغيرهم - فإنه يصبح مستأمناً [4] ومقتضى

تسميته مستأمناً، أن يأمن على نفسه وماله وعرضه، ومقتضى أيضاً أن يؤمن على

أموال غيره ودمائهم فلا يخون ولا يغدر، وإلا انتقض عهده وأمانه، وهو أيضاً

مقتضى العقد الذي يبرم بين الدولة المسلمة وغيرها بخصوص ما يتعلق بهؤلاء.

وألحق بعض الفقهاء بالمستأمنين، من يدخل من المسلمين إلى دار الحرب

بأمان، كالرسل والتجار وذوي الحاجات وغيرهم [5] وهذا الإلحاق ظاهر،

فمقتضى إذن هذه الدولة الحربية لنا بالدخول بأمان، يعني عهداً من الطرفين بأمان

الآخر، وخلافه خيانة، والخيانة محرمة، فلا يجوز لنا أن نسرق من أموالهم، ولا

نحتال عليهم، وقد نص على ذلك غير واحد من الفقهاء.

أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن سعيد بن جبير، قال: لما قال أهل

الكتاب: [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] [آل عمران: 75] ، قال نبي الله: كذب

أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها

مؤداة إلى البر والفاجر [6] .

الثانية: بما أن العصمة قد انتفت عن هؤلاء الحربيين فإنه يجوز سرقة

أموالهم، لكن ما حكم المال المسروق؟ هل يلحق بالغنيمة [7] أو لا؟ ؛ قولان:

فالمالكية - وكذا ابن حزم - يلحقونه بالغنائم وههنا أمور: فلا يتولى قسمة الغنيمة

إلا الإمام أو نائبه وليس ذلك لآحاد الرعية، وليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً قبل

القسمة إلا ما كان في طعام وعلف لدابته، وما احتاج إليه فيجوز أن يأخذ منه جائزة

قبل القسمة. ثم إن الغنيمة تُخَمَّسُ، فأربعة أخماسها للقائمين، والخمس الباقي

مختلف في كيفية توزيعه، وتفصيل ذلك في كتب الفروع.

وخلاصة ما تقدم: يقال لمن يستحل أموال الدولة الكافرة، يجب أن تثبتوا أن

هذه الدار هي دار حرب، وليست دار معاهدة، ولم يجرِ بينها وبين الدول

الإسلامية عهد أو معاهدة أمان، فإن تجاوزتم ذلك، فأثبتُّم أن هذه الدول هي دار

حرب، فيقال: كيف دخلتم تلك البلاد، هل دخلتموها بأمان أم لا؟ أنتم تدخلونها

بتصريح من تلك الدولة ولم تعطكم تلك الدولة ذلك التصريح، بل لم تسمح لكم

بالإقامة على أرضها إلا وهي تنظر إليكم على أنكم مستأمنون، ولستم أهل حرب،

وإلا لم تسمح لكم بالمكوث على أرضها ولا لحظة واحدة.

وبعد هذا البيان فقد عرضنا هذا السوال على العلامة الشيخ عبد الله بن عبد

الرحمن آل جبرين، فأجاب بما يلي:

(فإن هؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى الإسلام ويعتزون به يجب عليهم أن

يظهروا تعاليمه ويبيّنوا محاسنه للخاص والعام وأن يعملوا بكل ما يستطيعونه من

الإرشادات والتوجهات الإسلامية ولا شك أن منها الأمانة العامة التي وصف الله بها

عباده وسماهم مؤمنين وقال - تعالى -: [فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَذِي اؤْتُمِنَ

أَمَانَتَهُ] [البقرة: 283] ، وهذا لفظ عام ينطبق على كل مسلم ائتمنه أي بشر، فإن

عليه أن يكون مأموناً في سره وفي جهره ويبتعد عن الخيانة التي وصف النبي -

صلى الله عليه وسلم- بها المنافق في قوله: «وإذا اؤتمن خان» ، ولقد ذم الله

أهل الكتاب بقوله - تعالى -: [ومِنْهُم مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ

عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] [آل عمران: 75] ، أي

أنهم لا يخونون أمانتهم ويدّعون أن لا حرج عليهم إذا خانوا في ذلك في حق الأميين

من العرب بزعمهم أنهم ليس لهم دين أو أن دينهم غير محترم، ولقد أكد النبي -

صلى الله عليه وسلم- حق المعاهد سواء أكان كتابياً أو غير كتابي، فحرم قتله

والاعتداء على ماله أو محارمه، وكل ذلك إظهار لمحاسن الدين الإسلامي فقال

تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] [الإسراء: 34] وقال: [يَا أَيُّهَا

الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] [المائدة: 1] ، ولا شك أن كل دولة قد اتفقت مع غيرها

على صلح وأمان إذا دخلت في حدودها وفي بلادها بعض الأفراد من غير أهلها فإن

ذلك دليل أنها قد وثقت به وائتمنته وأمنت خيانته وغدره، وإنما أباح الله أموال

الكفار التي تؤخذ على وجه المغالبة بالقتال، ولا يحل ذلك مع أهل المعاهدة. قال

- تعالى -: [فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] [الأنفال: 72] ، وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- الكفار واليهود المعاهدين بالوفاء بجميع أنواع الوفاء، فلما قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من المشركين ولم يعلم بعهدهما فداهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما قتل المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قوماً من الكفار وأخذ أموالهم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً فقال: «أما الإسلام فأقبل وأما المال فلا» ، ومنع الصحابة من الاعتداء على أموال المعاهدين من المشركين وأهل الكتاب حتى نقضوا العهد عملاً بقول الله - تعالى -: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ ولا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا]

[النحل: 91] ، فكل من دخل بلادنا بأمان فإنه يحرم الاعتداء عليه في النفس أو في المال إلا إذا نقض العهد أو خالف ما يقتضيه الشرع، وهكذا كل من دخل بلادهم بأمان فإنه يحرم عليه نقض العهد والخيانة ولو كانوا كفاراً كما ذكر ذلك المفسرون عند قوله - تعالى -: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]

[آل عمران: 75] ، ونحوها من الآيات، وإنما تباح أموال الحربيين إذا أُخذت على وجه المغالبة والقتال، فأما إذا دخل الحربي بلاد الإسلام لتجارة ونحوها فإنه يؤمَّن حتى يخرج ويبلغ مأمنه، ويجوز التلصص على بلاد المحاربين واختطاف ما يقدر عليه من أموالهم بخلاف من لهم صلح أو عهد أو اعتراف من الدول الإسلامية وغيرها، فلا يجوز الاحتيال على أخذ أموالهم خيانة وغدراً فإن ذلك حرام يجب فيه التعزير والعقوبة الرادعة عن مثله. والله أعلم) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015