مجله البيان (صفحة 1395)

طرق الطرح العلمانى

طرق الطرح العلماني

د. عمر المديفر

ليست أساليب وطرائق العلمانيين في طرحهم للمبدأ العلماني واحدة، بل هي

متغيرة بحسب الزمان والمكان، وهذه التغيرات قد تشمل أساليب الخطاب، وقد

تمتد إلى أساليب عرض المبدأ العلماني، وهكذا..، فبينما تطرح العلمانية في قطر

معين على أنها مضادة للدين، تطرح في قطر آخر على أنها موافقة للدين. وفي بلد

ثالث تُفرض فيه العلمانية ببطء وحذر شديدين حتى لا تلفت الأنظار إلا بعد كونها

واقعاً لا مناص منه.

لقد كان كثير من العلمانيين في بدايات هذا القرن الميلادي لا يتقربون إلى

الدين وأهله، وكانت شعاراتهم تتراوح بين القومية والشيوعية والاشتراكية، ولكن

حينما اشتد ساعد الصحوة، وبدأ المسلمون يشعرون بقيمة دينهم، بدأ العلمانيون

بكافة أصنافهم بالتقرب إلى الدين، وبمحاولة إيجاد صيغة تجمع بين علمانيتهم

ومقاصدهم الشخصية وبين استغفال الشعوب المسلمة والاستخفاف بها من خلال

التظاهر بالمظاهر الإسلامية!

فعلى سبيل المثال، كان شبلي العيسمي (السوري الدرزي الذي فرّ من سورية

إلى العراق سنة 1967م) أحد منظِّري البعثية في العالم العربي لا يأتي للإسلام بذكر

فيما يقرب من عشرة مؤلفات صدرت حتى عام 1984م، أما ما بعد ذلك فقد ألف

عن كون العرب مادة للإسلام، وعن (عروبة الإسلام) ! ! وكذلك كانت حال بقية

المنظرين للعلمانية [1] .

وكل هذا التغيير يدلنا على أن العلمانية ليست مقنعة كمنهج في العالم الإسلامي، لأن المسلم - مهما بلغ انحرافه - يشعر بارتباط الإسلام بالحياة العامة، ويشعر

بكون الإسلام له سلطان على كافة أنحاء الحياة ومجالاتها، ولهذا نجد المسلم الذي لم

تفسد فطرته لا يفكر في إمكانية الخروج عن شريعة الله، ومن هذا المنطلق يرفض

العلمانيون أن يُستفتى الشعب في إقرار أو منع الدستور العلماني، لأنهم يعرفون

حتمية خسرانهم.

وهذه التغيرات تدلنا أيضا على أن العلماني ليس له هدف سامٍ وهو رفعة

الوطن - كما يقول - بل هدفه هو الوصول لمصلحة شخصية، والأمثلة على هذا

كثيرة ممن كانوا معارضين لأنظمتهم الحاكمة، ثم حينما اشتُريت مبادئهم بمنصب

ودخل مادي انقلبوا مدافعين عن تلك الأنظمة! !

ويمكننا تقسيم أساليب الطرح العلماني إلى طرح مكشوف وآخر ملتوٍ مموّه!

1 - الطرح الصريح:

وهذا الأسلوب هو أسلوب العلمانيين الأقحاح، الذين يستطيع المرء أن يصفهم

بالغلو العلماني بلا تردد، لصراحتهم حول هذا المبدأ، وهؤلاء أمِنوا العقوبة لأنهم

في بلد تحكمه العلمانية، والشرائع الجاهلية، التي تسمح لهؤلاء بالانتقاص من قدر

الدين، والتعدي عليه، في حين تكمم أفواه الدعاة، والذين يريدون الدفاع عن دينهم!!

ويرتكز هذا الطرح على ما يلي:

أ- مدح الغرب وإطراؤه، ودعوة الأمة إلى اللحاق بركبه والتأسي بتجربته

في رمي الدين جانباً وعزله عن الحياة، وعن هذا يقول أحدهم تحت عنوان (درس

النهضة الأوربية) وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث

حقيقتين على أعظم جانب من الأهمية:

الأولى: هي أن من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في

مراحلها الأولى على أساس الرفض الحاسم للتراث، وذلك حين يكون هناك انقطاع

في التراث يمنع من استمراره في خط متصل حتى الحاضر، وعندئذ لابد أن ترفع

النهضة شعار (البدء من جديد) كعلامة على تحدي التراث.

والثانية: هي أن التطور والتقدم المستمرين في المعرفة يساعدان على

الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف

بتخلفه [2] .

ب - ادعاء علمانية الإسلام، وأنه لا تناقض بين الإسلام والعلمانية! ؛ لأن

الإسلام دين فرد لا دولة! ويستدل هؤلاء بكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، وكتاب (الديمقراطية أبداً) لخالد محمد خالد وخير مثال لهذا الادعاء كتاب (العلمانية والدولة الدينية) لشبلي العيسمي.

ج - ادعاء عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأنها نزلت في وقت

معين، وأنها لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد، ولو كان في هذا

تجاوز لأحكام ثابتة غير اجتهادية؛ لأن المصلحة مقدمة على النص عندهم! !

وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون فردياً بالدين وشعائره! وإن كان معظمهم لا يؤديها! !

ويستدلون بأقوال هي إما لمنحرفين كمحمد أحمد خلف الله، وعلي عبد الرازق أو

أقوال شاذة لبعض القدماء كقول نجم الدين الطوفي: (إن المصلحة مقدمة على

النص) ! فتجد هذا النص متكرراً في كتبهم ومقالاتهم [3] ، ولم ينقل أحدهم القاعدة ...

المشهورة (لا اجتهاد مع النص) ولم ينقل أحدهم قول أئمة الإسلام فيمن يحدد ...

المصلحة! !

د- التركيز على قضية المرأة وأنها مهانة في الإسلام، وضرب الأمثلة

والإطناب في ذلك إلى حد زعم وادعاء اللعب على المرأة في الشريعة الإسلامية! !

حتى أن فؤاد زكريا ليقول - وبأسلوب مموه - (لو لم تكن المسألة في حقيقتها لعبة

بارعة أتقنها الرجل لكي يخدر المرأة ويحقق بها مصالحه لاتجهت دعواته إلى أن

يتحمل هو جزءاً من العبء على الأقل.. الخ) وكأن الشريعة وضعها رجل وليست

شرعاً سماوياً! .

هـ - جعْل الثورة الإيرانية الشيعية هي المثال لكل حكم إسلامي، وصحوة

إسلامية، بل إنهم يرددون في كتاباتهم مزاعم تصف العمل للإسلام، والدعوة للعودة

إليه، والتمسك به بالسعي إلى إقامة طهران أخرى! ! ؛ وهم بهذا يريدون أن

يخوفوا الشعوب من الصحوة الإسلامية، ويحاولوا الصد عن دين الله، بل إن

أحدهم قاس كل دولة إسلامية على الثورة الإيرانية بالنسبة للنص في الدستور على

مذهب معين فقال: (وقياساً على هذا المنطق فإن الدولة الإسلامية في الوطن العربي يجب أن تعتمد على الأساس المذهبي، ولا يخفى ما في ذلك من خطر وخطورة على إمكانية قيامها من جهة وعلى مضمون الوحدة والتماسك بين أبناء الدولة الإسلامية المنشودة من جهة ثانية) [4] وكأنه حريص على وحدة أي دولة إسلامية!

و نقد الصحوة الإسلامية ومظاهرها، والسخرية منها والتعرض بالنقد اللاذع

لرموزها من العلماء والدعاة وكل ذلك - كما أسلفنا - محاولة لإجهاض هذه الصحوة

أو بث الوهن فيها، وتفريق الناس من حولها ولكنهم خابوا وخسروا.

2- الطرح المموه:

وأهل هذا الأسلوب غاية في الحذر والمكر، فهم يدَّعون الإسلام، ويتباكون

على حال المسلمين، حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق، فلا يستطيع تمييزهم،

ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى

الحق ولو أقيمت عليهم الحجة، وهم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر

بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للإسلام، ففي هذه الحال يصدر

منهم ما ينبىء بما يخفون وبهذا يُتبيَّن انتماؤهم ومنهجهم.

وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين؛

فلا يمكن له التصريح بمنهجه، خشية من العقوبة الرسمية، أو خشية العقوبة

الشعبية، كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته. ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي:

أ- الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، والإلحاح على ذلك، وحشد النصوص

والنقول الشاهدة على ذلك، ثم تمتد هذه الدعوة إلى الاجتهاد في ثوابت الدين،

وتمتد إلى تجديد أحكام مجمع عليها وإلى الحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي

الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً، والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد،

ورفض أية وصاية - على حد زعمهم - يفرضها ذلك الإنتاج، وعدم الاعتراف

بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف!

وقد تورط في مثل هذه القضايا بعض الكُتاب مثل فهمي هويدي في كثير من

كتاباته وخاصة ما كتبه في فصل (وثنيون أيضاً عبَدة النصوص والطقوس) في ...

كتاب (القرآن والسلطان) . والدكتور محمد عمارة في كتاب (الإسلام والعروبة

والعلمانية) ، وفي كثير من كتاباته المعاصرة، وآخرين من أمثالهم.

إن الدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة، ولكن الاجتهاد له ضوابطه

وشروطه التي فصّل فيها علماء الأمة القول، وبينوا أن المجتهد لابد له من الآلة،

وهي علوم الشريعة، وأنه لابد - لكي يكون مجتهداً معذوراً - أن يبذل الوسع،

ويخلص النية، وإلا كان كمن اجتهد في القرآن برأيه، فأصاب ولكنه مخطئ؛ لأنه

اجتهد بغير علم، ويتناسى أصحاب هذه الدعاوى أقوال الفقهاء والعلماء في التحذير

من القول على الله بغير علم [5] .

ب - ادعاء: أن المهم هو أساس الإسلام، ورسالته المهمة في إصلاح

النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة، وإقامة

الحدود، والجهاد وغيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف! ! الذي يرضى

بالشرائع الغربية، والقوانين الوضعية التطبيقية، ولا يهتم إلا قليلاً بنقل جدية

الحضارة الغربية في العلم المادي، وهذا واضح في الجهود التي تبذلها الحكومات

العلمانية في محاربة الدين، وتغريب القوانين، بينما لم يستطع أي من تلك الأنظمة

التقدم تقنياً ومادياً كما تقدم في مجال التغريب!

ويحرص العلمانيون على احتقار المظاهر الإسلامية، لأنها هي سمة

المسلمين، وبها يعرف المسلم من غيره في عصور ظهور الإسلام، ولكن إذا فقدت هذه المظاهر أهميتها أصبح التمييز بين المسلم وغيره أصعب، وهذه الإشكالية صحيحة أيضاً بالنسبة للعبادات والشعائر العامة، وفي مثل هذه الأحوال يمكن للعلمانيين التحرك بحرية داخل المجتمع الإسلامي.

ج - دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرق: هذه الدعوى قديمة ومتجددة

لدى العلمانيين، فهم يرفعون هذا الشعار في كل مكان، ويرفضون التمسك بالدين -

وبالذات في حكم المجتمع - لأنه - على حد ما يزعمون ويفترون - يفرق المجتمع، ويؤجج النزعة الطائفية، وقد قال هذه الدعوى كثير من العلمانيين، بل يذهب

العلمانيون في تنظيرهم إلى وجوب تطبيق العلمانية لتحقيق ما يسمى بالوحدة

الوطنية! وهذا أحدهم يقول عن العلمانية: (وتلغي تنظيم المجتمع على أساس

الطوائف وهي إذ تلغي الطائفة - كوسيط بين الفرد والدولة - فإنها توفر أساساً

ضرورياً للديمقراطية، وتوحيد المجتمع في إطار عقلاني لا يمكن أن يتحقق في

ظل الانقسام الطائفي) [6] .

ويقول: (العلمانية هي الطريق الوحيد لتحقيق وحدة المجتمع، وإلغاء الانقسامات العامودية، مثل العشائرية، والعرفية، والقطرية، إلى جانب

الطائفية) [7] .

ولست أدري هل غفل هؤلاء عن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف -

والتي استمرت لمدة تقرب من الأربعة عشر قرناً - وعاش في ظلها غير المسلمين

أحسن من عيشتهم في ظل دياناتهم، مع أن الصليبيين حينما احتلوا الأندلس لم يبقوا

فيها مسلماً واحداً ظاهراً إسلامه على عكس وضع كل الطوائف في الدولة المسلمة،

بل إن اليهود استمروا تحت حكم هذه الدولة الإسلامية على دينهم طوال هذه الفترة.

د- القول بتغير الفتوى بتغير الزمان: فالعلمانيون يذكرون هذه القاعدة في

أكثر كتاباتهم، ويلفون حولها ويدورون، ويقيمون الحجج لها، وينقلون النصوص، ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها، وهذه قاعدة صحيحة لا غبار

عليها، وقد بحثها علماء الإسلام بحثاً دقيقاً وأصّلوها تأصيلاً شرعياً، ولم تحتجْ

الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها، ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها،

ولكن من يناقش وهو معظِّم لنصوص الشريعة ومحترم لها، غير من يناقش لكي

يسقط بعض أحكام الشريعة، ولهذا لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير

بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات، أما العبادات

وأحكام الأسرة والمواريث فهي ثابتة لا تتغير (ونص هذه القاعدة عام في ظاهره،

فالتغير في الظاهر شامل للأحكام النصية وغيرها، ولكن هذا العموم ليس مقصوداً؛

لأنه اتفقت كلمة الفقهاء على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس إنما

هي الأحكام الاجتهادية فقط، المبنية على المصلحة، أو على القياس أو على

العرف، أو على العادة، وعلى ذلك فالأحكام النصية ثابتة لا تقبل التغيير، ولا

تدخل تحت هذه القاعدة وقد رأى بعضهم أن يكون نص القاعدة) لا يُنكر تغير

الأحكام الاجتهادية بتغير الزمان (دفعاً لهذا اللبس وهذا قيد حسن) [8] ، وعموماً

ففتاوى علمائنا شاهدة على تطبيق هذه القاعدة بدون أن يلفت العلمانيون انتباههم

إليها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015