سعود بن عيد الجربوعي
روى الإمام البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات
ووأد البنات، ومنعاً وهات: وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة
المال» [1] .
هذا الحديث الشريف شامل لبيان جمل مهمة عن المحرمات، والمكروهات
التي يجب على المرء المسلم أن يتجنبها، ويتحتم عليه أن يباعد نفسه عنها، وأن
يحذر من مقارفتها أشد الحذر. أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وكثرة السؤال» .. فقد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند شرحه لهذا الحديث ما نصه: (وقد ثبت عن جمع من السلف كراهته تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو
يندر جداً، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع، والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه
من الخطأ) [2] . فالتنطع في السؤال وتكلفه، والسؤال عن الأغلوطات، والأمور
المشكلات، وما ليس للمرء حاجة فيه من الأمور - أمر منهي عنه، ومحذر منه لما
فيه من حصول الزلل والغلط، وقد روي عن الحسن البصري قوله: (شرار عباد
الله ينتقون شرار المسائل يُعَمّون بها عباد الله) ، كما روي عن مالك قوله: (قال ...
رجل (للشعبي) : إني خبأت لك مسائل. فقال: خبّئها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله
عنها) [3] ، وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يدل على أن الصحابة ... - رضوان الله تعالى عليهم - ما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلهن في القرآن، وأنهم ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم [4] . ومراده بقوله: (ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة) ، أي: المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيَّن لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى كما بينه ابن القيم - رحمه الله -[5] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - عند تفسيره لقوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] [المائدة: 101] : (لقد جاء هذا
القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب، ولا ليشير إلى شريعة فحسب، ولكن كذلك ليبري
أمة وينشئ مجتمعاً وهو هنا يعلمهم آداب السؤال وحدود البحث، ومنهج المعرفة.
وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة، ويخبر بالغيب، فمن الأدب
أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة، أو إجمالها.. لا ليشددوا على أنفسهم
بتنصيص النصوص، والجري وراء الاحتمالات والفروض.. [6] ، ولكن طائفة
من الناس لا يدركون هذا المعنى، فيقع منهم شيء من التنطع والتكلف. إما
للإغراب، أو التشكيك أو إرادة الامتحان أو الاستهزاء، ومع ذلك كانوا يقابلون من
العلماء بحسن الرد، فيُلجمونهم أشد الإلجام، ويُسكتونهم أيما إسكات، بردود تظهر
فيها الحكمة، وحسن التخلص مع التربية والتأديب، ومن ذلك: ما رواه (اللالكائي)
بسنده عن (جعفر بن عبد الله) قال: (جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد
الله: [الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى] [طه: 5] ، فكيف استوى؟ قال: فما رأيت
مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - قال:
وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه. قال: فسُرِّي عن (مالك) فقال:
(الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال
عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) . فأمر به فأُخرج) [7] .
وروى (القاضي عياض) في: (ترتيب المدارك) [8] : قال حبيب: كنا
جلوساً عند (زياد) [9] ، فأتاه كتاب من بعض الملوك، فمد مدة، فكتب فيه، ثم
طبع الكتاب، ونفذ به مع الرسول. فقال زياد: ألا تدرون عما سأل صاحب هذا
الكتاب؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة: أمن ذهب، أم من وَرِق؟
فكتبت إليه: حدثنا مالك عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه» ، وسترد فتعْلَم.
وردت عبارات كثيرة عن الأئمة تدل على كراهية السؤال عما لا ينفع السائل، فمن ذلك ما روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (سألني رجل مرة عن ...
(يأجوج ومأجوج) : أمسلمون؟ فقلت له: أحكمتَ العلم حتى تسأل عن ...
ذا؟) [10] .. هذا من جانب ومن جانب آخر نجد بعض الناس لا يبالون بما يفعلون، ولا يسألون عما يجهلون من أحكام دينهم وأمور دنياهم، فنراهم يتخبطون في مستنقعات الردى، وينزلقون في مزالق الذنب والمعصية، بسبب البعد عن شريعة الله - سبحانه وتعالى - وإغفال السؤال عن حكم الله، وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم- في الأعمال قبل القيام بها، مما يؤدي إلى كثرة وقوع الحوادث المخالفة، التي لا أصل لها في الكتاب والسنة.
يقول ابن رجب - رحمه الله -: (واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا
أصل لها في الكتاب والسنة، إنما هن من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أن من أراد أن يعمل عملاً سأل عما شرعه الله
- تعالى - في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه: وقعت الحوادث
مقيدة بالكتاب والسنة.
وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما
شرعه الله، وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة لبعدها
عنها [11] ، لذا وجب على المرء المسلم أن يتورع عن السؤال الذي لا حاجة له به ولا نفع، وأن يهتم بالسؤال عن الأمور النافعة التي يقوم بحسن القيام بها أَوَد أعماله، وأقواله وأحواله، وما يؤدي إلى معرفة ما يجب عليه من أمور عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، مع المحافظة على لزوم الحدود الشرعية، والآداب العلمية عند السؤال، وليعلم أن العلم سؤال وجواب، وأن حسن السؤال نصف العلم) .