طاجكستان مأساة جديدة
د. مالك الأحمد
توطئة:
تقع طاجكستان في أقصى الجنوب الشرقي للاتحاد السوفييتي (سابقاً) وتشترك
بحدود مع الكثير من الدول وأهمها أوزبكستان من الشمال وأفغانستان من الجنوب،
إضافة إلى الصين وقرقيزيا وكازخستان.
وهي بلد جبلي في معظمه يسكنه أكثر من خمسة ملايين نسمة أكثرهم من
الطاجيك، ثم الأوزبك، بالإضافة إلى أقليات عرقية أخرى.
واللغة القومية هي الطاجيكية وهي فارسية الأصل، لكن اللغة السائدة هي
الروسية. والبلد غني بموارده الطبيعية والغلال والثروات المعدنية والتي من أهمها
اليورانيوم.
والسكان غالبيتهم من السنة ويوجد أقلية من الإسماعيلية. والبلد صغير
المساحة بلا جيش - كحال الجمهوريات الأخرى - لكن الجيش الروسي هو الذي
يحمي الحدود ويسيطر على المراكز الرئيسية سواء في العاصمة (دوشنبه) أو المدن
الأخرى، وقيادته بيد يلتسن شخصياً.
والبلد يتميز بخصائص هامة جعلته محط الأنظار ولعل أهمها:
- قوة الشعور الإسلامي (القومي) لدى الناس، وتمسك الناس بالتقاليد المحلية
وثوراتهم المبكرة ضد الروس في أوائل القرن الحالي، وكذلك الثقافة العالية لدى
الكثيرين خصوصاً في الشمال، والوحدة الإسلامية رغم اختلاف الأعراق.
- وجود حدود طويلة مع أفغانستان، مما قد يسبب خطورة عند قيام دولة
إسلامية قوية فيها.
- وجود نشاط إسلامي قوي وموحد تحت قيادة حزب النهضة الإسلامي.
الأزمة وتطور الأحداث:
استقلت الجمهورية عن الاتحاد السوفييتي سابقاً في سبتمبر 1991 بعد ما
يقارب الـ 130 عاماً من الاستعمار الروسي، وتنفست الصعداء، وخرج طلاب
العلم من الأقبية المظلمة التي اضطروا إليها سنين طويلة كي يحافظوا على دينهم
وعلى لغتهم العربية، ونشطوا في الدعوة والتعليم وأقبلت عليهم الأمة بقلوب
عطشى بعد عقود من التجهيل.
لكن الحكم استمر بيد الشيوعيين مستخدمين نفس سياساتهم السابقة مع تحوير
طفيف دون أن يغيروا عباءتهم كما فعل أشياعهم في الجمهوريات الأخرى واستمروا
في سيطرتهم على كافة المنظمات الشبابية والنقابات والإعلام والمراكز الهامة في
الدولة.
ومجاراة لتطور الأحداث، قاموا بعمل انتخابات (مزورة) في أواخر 1991
وفاز فيها رأس الشيوعية في البلاد نبييف والمدعوم من حزبه الشيوعي، ونتيجة
لذلك تحركت أحزاب المعارضة الوليدة ممثلة بحزب النهضة الإسلامي وهو الغالب، ومعه الحزب الديمقراطي والحركة الشعبية (حزب قومي) مطالبة الرئيس بالتنحي
عن الحكم، وقادت هذه الأحزاب مظاهرات حاشدة فاضطر الرئيس نتيجة الضغوط
لتقديم بعض التنازلات، وشكلت حكومة ائتلافية شاركت فيها المعارضة مع
الحكومة، مع وعد بإقامة انتخابات برلمانية (البرلمان ما زال تحت سيطرة
الشيوعيين) ، لكن الرئيس نكث بوعوده، فتحركت الجماهير بالآلاف بتوجيه من
المعارضة وحاصرت القصر الرئاسي ما يقارب الشهرين حتى اضطر الرئيس
للتنازل والهرب بعد ذلك..
تكونت حكومة جديدة مؤقتة من المعارضة وبعض الشيوعيين (المعتدلين)
وحصل دولت عثمان (من حزب النهضة) على منصب نائب الرئيس مع أنه لم تكن
للحكومة قوة فعلية ولا سيطرة على الشارع، فالقوة الحقيقية كانت للمليشيات
الشيوعية المسلحة والمنظمة والتي انسحبت بعد فرار نبييف وتجمعت في منطقة
كولاب، وانضم إليها الكثير من عتاة الإجرام الذين أخرجوا من السجون وبدأوا
بالتحرك للسيطرة على المناطق القريبة منهم، وهاجموا كرغينة معقل الإسلاميين
الذين لم يكونوا على استعداد للمواجهة، ورغم ذلك استطاعوا إيقاف الشيوعيين
مرات عديدة بأسلحتهم الخفيفة. تطورت الأحداث بعد ذلك سريعاً حيث اجتمع
البرلمان (الشيوعي) وخلع الرئيس وأسقط الحكومة، ثم تكونت حكومة جديدة ليس
للإسلاميين فيها وجود، وضمت المليشيات الشيوعية للحكومة وأصبح الإسلاميون
(حزب النهضة) عناصر خارج النظام، حيث بدأت مطاردتهم في كافة البلاد،
وحدثت مجازر رهيبة بحقهم، لدرجة أن بعض الصحف الغربية كتبت تقارير حول
ذلك، فطلبت الحكومة مراقبين من الأمم المتحدة لمتابعة الأوضاع في البلاد حتى
تنفي عن نفسها مسؤولية المجازر التي وقعت للمعارضة وبخاصة الإسلاميين.
دور المفتي:
المفتي ورئيس الإدارة الدينية أكبر تورجان زاده لعب دوراً خطيراً في
الأحداث، فهو ابتداء من الوضع الشيوعي السابق، معروف بتقلبه ومواقفه
المتعارضة، فتارة مع الشيوعيين وتارة مع المعارضة وأحياناً يلعب دور الوسيط،
وفي مرحلة لاحقة ساعد على تصعيد المواجهة بين الطرفين (وهو يخبر الأجانب
أنه يريد دولة هيكلها علماني وروحها إسلامية، وتلتزم بمعايير حقوق الإنسان
الدولية! ! لكنه لا يتحدث بشأن هذه الآراء بصراحة مع الحركة الإسلامية) [1] .
مواقف الدول الخارجية:
- أوزبكستان: وتعتبر من أخطر الدول ودورها خبيث للغاية، فهي دولة
علمانية صرفة بأسلوب دول العالم الثالث، وتعلن ذلك بصراحة وتحارب الإسلام
في عقر داره، وكانت مواقفها خلال الأزمة مؤثرة وخطيرة، حيث قامت بدور
إعلامي رئيسي في الأزمة تمثل في تشويه صورة الإسلاميين من حزب النهضة،
ووصفتهم بالتطرف والإرهاب والوهابية (التي يبغضها الناس ولا يعلمون ما هي)
وتعتم على أخبار المجازر، وتهون من خطورة الأحداث، وأخبارها دائماً في
مصلحة الشيوعيين، وعند تأزم الأحداث أقفلت الحدود مع طاجكستان لحصار
الناس ومنعهم من الهرب وبالتالي نقل حقيقة ما يجري للناس هناك، وقطعت
الاتصالات والطرق، والقطارات والطيران، ودعمت عسكرياً الشيوعيين وطاردت
من فر من الإسلاميين لأوزبكستان، بالإضافة لحصارها للإسلاميين الأوزبكيين،
وختمت ذلك بالقبض على رئيس حزب النهضة في أوزبكستان عبد الله أوته وما
زال مصيره مجهولاً.
- روسيا: كان للروس دور هام وخبيث وإن كان بشكل غير مباشر حيث أن
موسكو تعتبر مصدراً رئيسياً للأخبار والمعلومات. قامت روسيا بتشويه صورة
الإسلاميين ووصفتهم - كأوزبكستان - بالوهابية والأصولية وأنهم يقاتلون المسلمين، وهيأت الناس للتدخل في حال تعرض الجالية الروسية في طاجكستان للخطر.
أما في الجانب العسكري فقد قامت قواتها بحجز الإسلاميين عن الشيوعيين في
بداية الأحداث عندما كانوا يطاردونهم، وأوقفت الإسلاميين في كثير من المواقع،
ثم قامت في مرحلة لاحقة بالدعم العسكري المباشر للشيوعيين، وزودتهم بأحدث
الأسلحة، وشارك بعض الجنود في القتال، وقامت القوات الروسية بإغلاق الحدود
مع أفغانستان لمنع تنقل الإسلاميين أيام الأحداث وفرارهم آخر الأمر.
- الدور الغربي: تعتبر أمريكا ذات دور هام في دول آسيا الوسطى حيث لها
سفارة تتابع أحداث المنطقة عن كثب، وقامت أثناء الأحداث بمد أنصار نبييف
الشيوعيين بالأسلحة حيث هبطت طائرات نقل أمريكية في كولاب مباشرة تحت
غطاء المساعدات الإنسانية.
- أما الدول العربية والإسلامية فكان دورها سليباً كالعادة، عدا إيران
الرافضة والتى تحمي مصالحها فقط..
نتائج الأحداث:
* حدثت مجازر رهيبة بحق المسلمين والإسلاميين من حزب النهضة على
وجه الخصوص - وتقدر بين 12. 000 - 20. 000 بالإضافة لآلاف قتلوا
أثناء هربهم من الأحداث، بما فيهم من شيوخ ونساء وأطفال بأيدي الشيوعيين
ومسانديهم من الروس، وغرق المئات في نهر جيحون أثناء الفرار، والهجرة
القسرية لأعداد كبيرة من العائلات التي تضررت بالأحداث خصوصاً في جنوب
البلاد إلى أفغانستان (يقدرون بمائتي ألف نسمة) وهم يعيشون في وضع سيء للغاية
من برد شديد، انعدام للمؤن والألبسة والخيام.
* توقف جميع الأنشطة الإسلامية وحلقات العلم، وفرار الكثير من طلبة العلم
إلى البلاد المجاورة والتخفي.
* الملاحقة أو القتل والتعذيب اليومي لأي شخص اشترك في المظاهرات أو
ينتمى لحزب النهضة.
* تدمير وحرق ونهب مناطق الإسلاميين.
* توقف أنشطة البلاد الاقتصادية والأعمال والمدارس ودمار في كثير من
مرافق البلد.
تقويم للأحداث:
- المرتدون من العلمانيين والشيوعيين يمثلون أكبر خطر على الأمة
وعداوتهم لهذا الدين وأهله متأصلة في نفوسهم وهم لا يرعوون عن ارتكاب الجرائم
والقتل والاغتصاب للحفاظ على مصالحهم، ويتحالفون مع أعداء الأمة الخارجيين
كالنصارى واليهود وغيرهم لوأد المسلمين في ديارهم.
- الغرب والشرق على السواء لا يمكن أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام قيام دولة
إسلامية، وسيبذلون وسعهم للحيلولة دون ذلك إن ظهرت بوادره (مثال البوسنة
والهرسك) .
- سلامة المنهج ووضوح الراية ركن أساسي في العمل السياسي للمسلمين أما
دخول الإسلاميين في تحالفات مع أعداء الله الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة
أو مشاركة في حكومات مختلطة فإنه خلل في المنهج وعواقبه
- إن دخول الإسلاميين في اللعبة السياسية قبل أن يشتد عودهم خطر كبير
على الدعوة وآثاره لن تزول بسهولة، وكذلك اعتمادهم على جماهير غير واعية
ولم تتربَّ تربية سليمة، وإن الأمة تحتاج لجهود ضخمة من الإعداد والتربية
الإيمانية والجهادية قبل خوض المعركة مع أعدائها.
- وإيران خطر مستفحل وأثرها في طاجكستان ملموس نظراً لوجود اللغة
المشتركة وقد استفادت كثيراً من تقاعس أهل السنة، وإخواننا في حزب النهضة
اكتشفوا - أخيراً - حقيقتهم بعد أن وثقوا بهم في السنين الماضية، ولا أدل من
موقفهم السلبي تجاه الأحداث وكأنها لا تعنيهم.
وأخيراً نقول إن المأساة الدامية التي عاشتها الأمة في طاجكستان قدر من الله
وابتلاء وامتحان، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- ألا تكون عقوبة لهم. إن الأزمات
دروس للأمة لترتيب الصفوف ومتابعة الخلل وتصحيح الأخطاء والانتباه للمستقبل،
وفي ظني أن الدعوة - في عموم الجمهوريات الإسلامية - سوف تكون تحت مجهر
الأعداء ولن يدعوا الأمور تصل إلى ما وصلت إليه في طاجكستان، فالأمر سباق
بين دعاة الإسلام ودعاة العلمنة، فأيهم يسبق؟