مجله البيان (صفحة 1344)

الإبعاد (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم)

الإبعاد

[وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ]

د. عبد الله عمر سلطان

اليهود كانت ولا تزال أمة تنتشي بقتل الأطهار وتحتفل بملاحقة الصالحين..، أمة قتلت أنبياءها، وطاردت صالحيها، وأدارت ظهرها مرة بعد مرة لقوافل الرسل الكرام والأنبياء الأطهار، الذين أرسلوا لها ليثنوها عن غيها ويرشدوها إلى أفق الاستقامة ودرب النور.. هذا أمسها.. وهذا يومها شاهد على أنها الأمة المغضوب عليها..

الصالحون الداعون إلى ربهم كان طريقهم حطباً في الطريق، وسلىً يلقى

على الأعقاب وطرداً من الديار هرباً بالدين والمبدأ.. هذا لوط -عليه السلام-

يخرجه قومه: [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] والمتطهرون

من أتباع نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- خرجوا مهاجرين إلى الحبشة مرتين

وإلى يثرب حيث كانت من الحمى تستوطن ويهود تتآمر في هجرة الظفر والنصر

.. هذا كان قدرهم وقدر هؤلاء الفتية الذين أتى بهم رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- مجندلين يوم الحديبية. روى البخاري (وبينما هم كذلك - في مناقشة بعد

الصلح -إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل

مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من

أقاضيك عليه أن ترده إلي بموجب الاتفاق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنا لم

نقض الكتاب بعد، فقال: إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي فأجزه لي.

قال ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال: مكرز بل قد

أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت

مسلماً ألا ترون ما لقيت، وقد عذب عذاباً شديداً في الله) .... ثم انطلق هؤلاء ...

الأبطال هاجرين ديارهم في مكة مترصدين لعير وتجارة قريش في تلك البقعة النائية

على ساحل البحر الأحمر، حتى كان هذا الإبعاد إرهاصاً لفتح مبين..

وفي كل رحلة غربة وقافلة إبعاد ترفع التكبير كان النصر يأتي مع الصبر

ويعقب العسر اليسر.. وفق سنن العزيز الرحيم.

اليوم يستطيل يهود ومن خلفهم العالم النصراني الغربي المتواطىء ويقومون

بنفس الجريمة التي تحرمها قوانينهم ومواثيقهم التي لا تساوي قيمة الحبر الذي

كتبت به.. لكنهم في خضم الخوف من اشتعال الإيمان في الصدور، والجهاد في

الأعضاء، ينسون أن المعركة منذ هذه اللحظة دارت واستدارت وتوجهت نحو أفق

بديل..

ولم تعد معركة إسرائيل مع منظمات تطرح العلمانية حلاً أو الشيوعية خلاصاً

أو التطبيع رهاناً، أو أي مذهب آخر ساقط كمخرج لقضية المسلمين الأولى.. كلا

وفي ظروف دولية وإقليمية متجددة يماط اللثام مرة أخرى عن الإسلام، فإذا هو

ماثل في صورة طفل ينازل يهود وهو يزلزلهم بآيات البقرة، أو شيخ وهو يحمل

قنبلة مولتوف يقذفها في وجههم وهو يتمتم بأرجوزة ابن رواحة:

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

أو امرأة صبرت واحتسبت وقامت بتربية تسعة رجال كل واحد منهم تعده

ذخراً لقضية الإسلام شوكة في حلق اللئام..

لقد استجمعت الأمة قواها في ظل التوحيد، واختارت أن تعيد سيرة رجالات

الإسلام الأفذاذ الذين ضحوا ويضحون في سبيل القدس، لا لكونها حجراً أو شجراً

أو قطعة أرض، فهذا ما راهن عليه المارقون وحاولوا أن يجمعوا الفلسطينيين عليه

لعقود، لكن أبناء الإسلام تلوح لهم المساجد والمآذن وشجر الزيتون والإذخر،

فيحيوها في أذهانهم رموزاً لمواطن المعركة ومسارح لساح الجهاد الذي ينتظرهم..

إيجابيات..

ككل فعل بشري، وقدر ماض، كان حدث الإبعاد مزيجاً من الإيجابيات

والسلبيات التي نرجو أن تتحول إلى كم من الإيجابيات هائل، وقدر ضئيل من

السلبيات لا نملك إلا المدافعة والمحاولة لتغيير مسارها.

* إن أبرز إيجابيات الإبعاد تحويل مسار الصراع من بعده العلماني كصراع

حول الأرض والشجر، إلى منازلة عقيدة ودفع بين الحق المجاهد والباطل المستكبر..، لقد ظلت صيحات الدعاة خافتة لزمن طال، أما اليوم فإن الأعداء يدركون أن الصراع قد اختط زاوية أخرى تحمل في طياتها كما قال رابين خطراً داهماً على الكيان الصهيوني.

* ومن إيجابيات الإبعاد هذا الدرس العملي الذي تسابقت وسائل الإعلام

الغربية على نقله وتصويره، صورة معبرة للمبعدين وهم صابرون مصابرون

بروح عالية وإصرار على المكوث في هذا الجرد الموحش لا يؤنس وحدتهم إلا

صلاة أو ذكر أو دعاء..!

* تقديم صورة جديدة لقيادات لا تعرف الترف ولا المتاجرة بقضية شعبها،

إن شعوبنا ملت تجرع الهزائم وكرهت ملامح هؤلاء الذين تحولوا من صعاليك إلى

أباطرة عبر تقديم التنازلات تلو التنازلات.. أما هؤلاء فيشرعون في رسم مشروع

بطولة ومصابرة تحتاجها الأمة وهي ترى العارض المستقبل أوديتها وفيه ريح

تطبيع مدمر!

* في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات سماسرة التطبيع مع اليهود والمنادين

بالصلح مع إخوان القردة والخنازير وعبد الطاغوت، يعري المجاهدون المبعدون

هؤلاء العتاة، ويحذرون الأمة بلسان المقال من خطورة الإقدام على هذا الصلح مع

قوم لا يعرفون عهداً، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.

* أما أمم (بطرس) المتحدة فأبت إلا أن تثبت لنا وللمشككين في نواياها ...

(وهم كثر) أنها حرب على كل طاهر وصالح من خلايا الأمة الإسلامية المستهدفة،

ويأبى الله إلا أن يفضح بطرس وأسياده فهو كان على بعد ساعة من مقر قيادة

حكومة الصهاينة كان في القاهرة ومقاديشو وأديس بابا، ولم يكلف نفسه عناء السفر

أو التصريح بشيء من عباراته البطولية التي يطلقها في وجه المحاربين للنفوذ

الأمريكي والغربي.. وإذا كان نصفك يهودي يا بطرس، هل تأتي هذه الحادثة إلا

لتكشف لنا عن خبث نصفك الآخر؟

* وإذا تطرقنا إلى الساحة العربية فإننا لا نجد إلا عجزاً وهواناً.. الأسلوب

المشروخ هو ذات الأسلوب.. شجب، استنكار، إدانة ثم إذا جد الجد.. إصرار

على خوض المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود، فطريق العجز يردي،

والضعفاء كالمعاقين لا يقدرون على الركض في دروب الجهاد..

وسلبيات..

* تدرك الدولة الصهيونية أهمية القيادة ودور الرموز، لذا فإنها سارعت إلى

إبعاد قيادات العمل الإسلامي في أول مناسبة بُعيد قتل المجند اليهودي، ولأنها لا

تحتمل وجود عمل إسلامي منظم وقوي فإنها سارعت إلى هذه الخطوة التي قد تؤثر

سلباً على انتشار الحل الإسلامي بين أوساط الشعب الفلسطيني، وهذا يقتضي إنشاء

قيادات بديلة تستعين بالكتمان وطول النفس في مواجهتها مع الأعداء و (بعض)

الأصدقاء!

* سارعت المنظمة إلى المزايدة على أحداث الإبعاد وتصويره أنه من

بطولاتها (فبطولاتها خارقة للغاية) ، وفي الوقت الذي طالب رئيسها الهرم عبر ...

صحافة اليهود بقتل (الجناة) الذين قتلوا الجندي اليهودي، كان يجري مباحثات مع

قادة حركة حماس من أجل التنسيق ونصب فخاخ المشاركة في هيكل منظمته

العلمانية..، إن الدخول مع هذه المنظمة المفلسة واقعاً ومعتقداً منعطف خطير

ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعيد النظر فيه، وهذه السلبية اصبحت حدثاً

متوقعاً على الدوام في إطار عجز الخطاب العربي وخوائه. فكما تنبأ العديد من

الإسلاميين سارعت طهران إلى ركوب الموجة الفلسطينية الجهادية واستغلالها في

نفس الوقت الذي كشفت فيه الأنباء خلال نفس الفترة عن صفقة سلاح إسرائيلية-

إيرانية عن طريق كوريا الجنوبية، وهذا دليل آخر على النفاق الرافضي الذي

يرضي البسطاء بتقديم الجعجعة الإعلامية، بينما يأكل اليهود الطحين الإيراني كما

فعلوا من قبل، إن السلوك الإيراني بحاجة إلى دراسات خصوصاً على الساحة

الفلسطينية التي ينبغي على المخلصين فيها أن يسترجعوا دروس القضية الأفغانية

وموقف إيران الإجرامي حيالها، أو ما كشفت عنه الأنباء المتواترة عن تقديم

كلاشنكوفات وأسلحة (رمزية) لمسلمي البوسنة في العلن، بينما يزود نظام الملالي

الصرب بالنفط القادر على سحق أبناء السنة من البوسنيين.

كلما مر يوم على المبعدين الصابرين في الجرد الموحش كشف لنا عن درس

إيجابي أو نقطة ضعف قاتلة، ولكن مجمل المسار لقضية الإبعاد هو مسار إيجابي

عسى أن يتحقق فيه قول الحق -عز وجل-: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ

فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] ، ولعلهم أن يكونوا أحفاداً لأبي جندل وصحبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015