مقال
عبد القادر حامد
تتردد كلمة (التطهير) وصفاً لعمليات الإجلاء القسري الوحشية التي يقوم بها ... ...
الصرب الأرثوذكس الموتورون ضد مسلمي البوسنة والهرسك، فلماذا يلجأون إلى
هذا المصطلح، وما الأثر النفسي الذي يتركه في نفوس وعقول مستخدميه؟
يعتقد هؤلاء الأوغاد أن المسلمين طارئون على هذه المنطقة، وليسوا أصلاً
من سكانها، بل وفدوا مع ما يسمونه الغزو العثماني الذي أخضع البلقان للدولة
العثمانية قروناً، لذلك هم يريدون تطهير البلقان من كل وجود إسلامي، لأنه
يذكرهم بسيطرة المسلمين التي يقض مضاجعهم مجرد تذكرها. ولأن العنصرية
نبت أوروبي متحدر من تأثيرات وثنية جاهلية، يونانية ورومانية، ولا علاقة لهذه
النبتة برسالات الأنبياء - ومنها رسالة المسيح عيسى بن مريم؛ فإن هؤلاء
ينظرون إلى غيرهم من أهل الأديان الأخرى هذه النظرة العنصرية البغيضة
ويشوهون التاريخ، ويحرفون حوادثه حتى يُرضوا نزعة التعصب الخبيثة في
نفوسهم.
وقد سمعنا أصداء هذه النزعة مراراً تصدر من هؤلاء المسيحيين الذين يتبرأ
منهم عيسى -عليه السلام-، بل هم عار على كل منتسب للإنسانية يحترم الحياة
والأحياء. سمعناها في لبنان عندما قال بعض نصاراها: (فليرجع المسلمون إلى
مكة) ، مع أن التاريخ يثبت أن هؤلاء النصارى بعضهم يرجع في أصوله إلى الصليبيين، وبعضهم إلى عائلات مسلمة تنصرت وبعضهم وفد إلى لبنان من هنا
وهناك عندما أصبح لبنان مرتعاً للمبشرين ومكاناً للقوى الغربية المتصارعة على
الأسلاب الإسلامية. وحتى بعد أن فُصِّل لبنان ملجأً للمسيحيين في الشرق،
وحشدت الطوائف النصرانية بالحراب الأوربية لتؤلف أغلبية مهيمنة ظل المسلمون
أكثرية أمكن إخفاؤها فترة، لكن انكشف اللعبة وأصبح يعرفها أشد أطفال المسلمين
جهلاً بالسياسة، كاثوليك وأرثوذكس، شرقيون وغربيون، أرمن ورومان ولاتين،
وبروتستانت، يسوعيون ومعمدانيون وفرنسيسكان.. خليط عجيب يوهم أن الإسلام
ذهب إلى غير رجعة ولم تقم له قائمة، ومع كل هذا الغزو المنظم، والتجمع اليائس، فإن حقيقة عدد المسلمين لا تسر هؤلاء الصليبيين إلى الحد الذي يجعلهم لا ...
يوافقون على إجراء إحصاء للسكان.
ونسمع هذه النزعة أحياناً في مصر، فإن نفراً من الأقباط يعتقدون - يا
للجنون - أن هذه الملايين من المسلمين المصريين هم أحفاد عمرو بن العاص ومن
كان معه من الجيش الذي فتح مصر. وأنهم - أي الأقباط - فقط هم أهل البلاد
الأصليون، وأن المسلمين معتدون واغلون غرباء! وربما تحدث بعضَهم أحلامُهم
المريضة أنهم سيعيدون عجلة التاريخ إلى الوراء، وأن مصر ستدفع المسلمين عنها، كما دفعت الهكسوس واليونان والرومان والإنكليز.
إن النصارى قوم شأنهم شأن واحد أينما وجدوا وحيثما حلوا، فإذا كانوا
أكثرية لا يستطيعون العيش مع المسلمين أبداً، ولا يزالون يضيقون على المسلمين
حتى يفتنوا بعضاً، ومن استعصى على الفتنة فإما القتل وإما التشريد والتجريد من
كل شيء. وإذا كانوا أقلية لا يرضى لهم طموحهم وكراهيتهم للمسلمين بغير أن
يحكموهم صراحة فإن استعصى ذلك عليهم فيقنعون بلعب دورهم كاملاً ولكن من
وراء حجاب. وإن هذه الأعصار - التي هان المسلمون فيها وتسلط عليهم الأعداء
من الداخل والخارج - تعينهم على مقاصدهم، وهي الفترة الذهبية السانحة، فتراهم
لا يضيعون الوقت لاقتناصها.
ينبغي أن لا ننخدع بهذه الألفاظ المخدرة التي يسمونها الحضارة، والتطور،
والتسامح، وحقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية، فهي ليست إلا قشرة رقيقة هشة
تستر وحشية الأوربيين العنصريين الذين لا يفهمون الدين تربية وتهذيباً وإنما حقداً
وعنصرية وتعالياً على الآخرين. وهذا ما يجب أن توضح فيه وتفهم على ضوئه
هذه الكلمة الخبيثة: (التطهير) . فهم لا ينظرون إلى المسلمين على أنهم وسخ
عادي يحتاج إلى تنظيف وإزالة فقط، وإنما على أنهم رجس ونجاسة تحتاج إلى
تطهير، فهناك فرق في النظرة إلى الوسخ والنظرة إلى النجاسة، فالأول يزال
والنفس حيادية تجاهه، والثاني يزال والنفس منه متقززة، والطبع منه نافر.
وقد يُظَن أن الإعلام الأوربي غير موافق على هذا المصطلح الخبيث، ويلوم
الصرب على استعماله، والحق أن هذا الإعلام المدخول ينقله ويشيعه كما لو أنه
يتحدث عن منطقة موبوءة يراد تطهيرها من عوامل المرض، بل يزيد تضليلاً
وتلبيساً وكذباً حين يصف هذا التطهير (بالعرقي) حتى لا يثير حمية المسلمين
الدينية، فالأمر ليس إلا صراع قوميات، وما دام الإسلام يضم أقواماً من مختلف
الأجناس فالقضية لا تخصهم ما دامت بين قوميات! لكن القائمون على هذا الإعلام
يعلمون أن الصرب والكروات والمسلمين كلهم يرجعون إلى أصول عرقية واحدة،
ولا يكاد الناظر إليهم يفرق بين فئة وفئة، فأشكالهم وألوانهم وملامحهم واحدة لكن
فرقتهم العقائد.
لكن الصرب المتعصبين لم يتركوا الأمر غامضاً، وأفصحوا عما في نفوسهم
تجاه الإسلام والمسلمين، فهم يصرحون أنهم يقاتلون من أجل تطهير أوربا من
المسلمين وإنقاذها من الإسلام، وأنهم هم حماة بوابة أوربا، وأنهم لا يزالون
يقاتلون المسلمين منذ خمس مئة سنة وأنهم يشعرون أنهم خلفاء البيزنطيين. وهذا
ليس شعور الصرب وحدهم؛ بل شعور كل من يشاركهم في العقيدة أو كراهية
الإسلام وإن غطت على هذا الشعور كثير من الادعاءات والأكاذيب التي يقصد منها
الخداع.
ينبغي على المسلمين في كل مكان أن يدركوا أنهم لم يكونوا - ولن يكونوا -
في حساب من وضعوا لوائح الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فلا مبادئ الثورة
الفرنسية يوم أعلنت عُني بها المسلمون؛ ولا ميثاق جنيف لحقوق الإنسان خطر
المسلمون على بال من أقروه. ولا هذه الـ (أل) الداخلة على كلمة (إنسان) هي
(أل) الجنس التي تفيد العموم في اللغة، وتشمل كل من يصدق عليه وصف إنسان
عند العقلاء؛ بل هي (أل) التي للعهد، والتي يقفز إلى الذهن عند ذكرها مع
مصحوبها الإنسان الأوربي أو الإنسان المسيحي، أو بصراحة ودون لف ودوران:
الإنسان ما لم يكن مسلماً! !
ولئن أصاب المسلمين نعيم حقوق الإنسان وتذوقوا حلاوتها فإنما ذلك يأتي تبعاً
غير مقصود، وذلك حين يعيش بعض المسلمين أقلية لا وزن لها في مجتمع من
المجتمعات المسيحية، لكن حين تصبه هذه الأقليات شيئاً يؤبه له يتغير كل شيء،
ويسحب منهم هذا الامتياز الذي يضفي عليهم صفة الإنسانية. وفي قولنا هذا شيء
من التجوز، فلا يسمح المسيحيون - ولن يسمحوا - أن تتحول الأقليات الإسلامية
التي تعيش بين ظهرانيهم إلى شيء ذي بال يؤبه له، هكذا يقول التاريخ القديم
والحديث.
لا بد أن يدرك المسلمون الخطر المحدق بهم، فإن الضغط عليهم لم يخف،
وما زال الغرب يضغط لشيوع المفاهيم النصرانية التي تزحم الإسلام وتدفع به إلى
زوايا النسيان، على الرغم من خواء هذا الغرب من الدين الصحيح، وإن التقدم
العلمي وسرعة الاتصال، الذي اختصر المسافات، بل يكاد يلغيها؛ يجعل رحيل
الاستعمار عن بلاد المسلمين أمراً يحيط به الشك ويكذبه الواقع.
ولا بد لنا في النهاية أن ندرك أن هوان الأقليات الإسلامية المحرومة من
الحقوق والمسلط عليها الفناء والاضمحلال هو نتيجة حتمية لهوان الأكثرية
الإسلامية في بلادها، وتفرق شملها، وذهاب ريحها، وعدم وعيها بالواقع المحيط
بها، والمخاطر التي تتهددها.