تراث
محمد عبد الله آل شاكر
- 1 -
قال لي صاحبي يوماً وهو يحاورني: لقد أجمعت أمري على أن أفاجئ العالم
باختراع جديد، وسَبْق فريد، أسجِّل حقوقه، فلا يعتدي أحد عليها بالسطو أو
التقليد.. قال هذا، وعلامات الجد ترتسم على محياه، فما عهدت منه إلا الصرامة والجد. فلا بد - إذن - أن شيئاً جديداً نافعاً يفكر فيه صاحبنا كيما يقدم للأمة ما قد يكون سبباً في رفعتها وتقدمها الماديّ والمعنوي، فتغدو وقد بزَّت غيرها من الأمم، وتربعت على كرسي الزعامة والريادة.
وبادرت صاحبي بالسؤال عن هذا الاختراع الفريد؟ ! فقال: إنه جهاز
لضغط العمالقة الكبار، لتحويلهم إلى أقزام صغار! فضحكت حتى وقعت لقفاي
وفحصت برجلي..: جهاز لضغط العمالقة! ضحكت، أولاً، لطرافة الفكرة
وغرابتها، وضحكت ثانية: للنكتة تجري على لسان صاحبي - فقد ظننتها نكتة -
وما عرفته كذلك. فإذا به ينتهرني لأكفَّ عن ضحكي، فالموقف غاية في الجد
والخطورة، فليست هذه نكتة، ولكنها فكرة جديدة، لها سوابق تاريخية واقعية
تعطيها صفة المشروعية.
فقلت في نفسي: أَمَا وإنّ الأمر جدّ خطير، فينبغي أن أحذِّر صاحبي من هذا
العدوان المبيَّت على العمالقة. فما أظنهم يتركونه يعبث بسمعتهم عندما يفكر
بتحويلهم إلى أقزام، فضلاً عن أن يتركوه يمضي في تحقيق ما يريد! وإن تواضع
العمالقة فسكتوا، أو إن ترفعوا فأغضوا؛ أفيسكت عن ذلك كله دعاة حقوق الإنسان؟ ويغضي عنه أناس لا تزال في رؤوسهم نخوة وحمية للإنسانية، وعندهم أثارة
من علم بعواقب هذا البغي والظلم للآخرين..؟
إذ هذا العدوان حرام آثم بحكم الشرع، وممقوت بغيض بنظر الإنسانية،
ومخاطرة كبيرة بنظر الواقع!
فقال آمناً مطمئناً: ومن ذا الذي حرّمه عليّ وأباحه لغيري؟ فتعجبت من
إصراره، وازددت عجباً من دعواه أن غيره أبيح له ذلك ففَعَله! فما سمعنا ولا
قرأنا - على الأقل في صحفنا العربية العتيدة - خبراً عن هذا الذي قام به غيره.
وحتى لا يتركني صاحبي في حيرة من أمري، وحتى لا أسترسل في عجبي
واستغرابي، اقتادني من يدي ليريني شاهد الصدق على ما يقول، واقعاً مشاهداً،
نراه بأم أعيننا، ونلمسه بأيدينا، ونتحسسه عن قرب.. فإذا وقع هذا، فلا أدلَّ
على المشروعية من وقوعه، ومن ثم فهو دليل وسابقة تدل على مشروعية ما يفكر
به صاحبي ويعزم على إنفاذه.
-2-
دخلت مع صاحبي إلى مكتبته، فأخذ يتناول بعض ما فيها من مجلدات
وكتيبات، ثم يضعها أمامي، وكأنه يقول: هذا هو الدليل العملي الذي أريد أن
أقدمه بين يدي مشروعي ليدل على صوابه وجوازه، أي هذه هي السوابق التاريخية
التي أصبحت حجة، لأن أحداً لم يعترض عليها، فدل ذلك على الموافقة أو
الإجماع السكوتي على الأقل.
هذا هو كتاب (المغني) لابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) ، موسوعة ... ضخمة في الفقه الإسلامي، تباهي به المكتبة الإسلامية، ويعتز بها الفقهاء، حتى ... قال عنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام - وهو من هو في الإمامة في العلم والاجتهاد - قال عنه: (ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل (المحلى ... والمجلى) لابن حزم، وكتاب (المغني) للشيخ موفق الدين بن قدامة، في جودتهما وتحقيق ما فيهما، ولم تطب نفسي بالفتيا حتى صارت نسخة من المغني عندي) . ...
وما أظنني بعد كلمة العز هذه بحاجة إلى الحديث عن مكانة هذا الكتاب
الضخم، الذي بلغ عشر مجلدات كبار، وفي بعض الطبعات أكثر من هذا، ولكن
أحد الأساتذة المشاركين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قام باختصاره وسماه (المقني في اختصار المغني) ، رأيت منه مجلدين اثنين، ينتهي الأول منهما بنهاية
كتاب الجنائز، قال فيه صاحبه: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الاستفادة منه -
إلى حد كبير - على المتخصصين. ورغبة مني في المشاركة في خدمة هذا الكتاب
الجليل، ومن أجل تعميم الاستفادة منه، وتقريب تناوله أقدمت على اختصاره..)
ص (5) .
وعجبت لعمل الأخ الأستاذ، مرات.
أولاً: لأنه أستاذ في الجامعة الإسلامية التي كانت ولا تزال ولن تزال - إن
شاء الله تعالى - مركز إشعاع ونور وهداية، والتي نتوسم فيها وفي أساتذتها
ومشايخها أن يكونوا سداً منيعاً أمام سيل المختصرات والتشويهات التي بدأت تغمر
ساحتنا الفكرية، وأن يقولوا كلمة الفصل للتفريق بين هذا العبث وبين تذليل العلم
لطالبيه.
ثانياً: العجب من فكرة الاختصار نفسها بهذا الشكل؛ فإن هذا الكتاب الكبير،
لم يكتبه مؤلفه - رحمه الله - لعامة الناس من غير المتخصصين الذين نريد التيسير
لهم، ولهذا فإن عبارة الدكتور: (ولعل كبر الكتاب وتوسعه قصر الإفادة منه - إلى
حد كبير - على المتخصصين) لم تضف جديداً، مع أن هذا القول غير مسلم؛
فالمغني بعبارته السهلة التي تنساب انسياباً يمكن أن ينتفع به كثير من القراء الذين
يراجعون أمثال هذه الكتب، بَلْه المتخصصين من طلاب الشريعة. وهذا التوسع
في الكتاب هو ميزته الفذة.
أَوَليس هناك طريقة أخرى لخدمة الكتاب وتيسير الانتفاع به، كالفهرسة،
وإبراز بداية الفصول والأبواب والمسائل بخط واضح مثلاً يشير إلى موضوعها بما
يغني عن إدخال العناوين الجانبية في صلب الكتاب؟ !
وإذا كان هذا المختصر يقع في ثماني مجلدات - كما علمت - فكيف يكون
تيسيره للقراء وتعميم الاستفادة منه وهو بحجم يعادل حجم الأصل، فإن كان ذلك
بتيسير شرائه، فإن القادر على شراء المختصر بهذا الحجم قادر على شراء الأصل
الذي يقاربه، ومن يقرأ في هذا لا يعجز عن القراءة والفهم في الأصل.
ثالثاً: طريقة الاختصار، التي ذهبت بجلّ حسنات وميزات (المغني) وله
من اسمه نصيب فهو المغني حقاً، يغني طالب العلم عن كثير من كتب الفقه، ولا
يغني عنه كثير منها، فهو كتاب (في فقه المسلمين كافة) كما يقول الشيخ محمد
رشيد رضا، يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين،
كالأئمة المتبوعين وغيرهم، ويحكي أدلة كل منهم.
فقام الدكتور بحذف (التفريعات النادرة الوقوع، والأقوال الضعيفة أو ... الشاذة) . وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك؛ فشذوذ القول لا يبيح لنا حذفه من ... الكتاب، ووجوده هو الذي يثبت القاعدة الأصل. وكذلك الأقوال الضعيفة، فكم من قول ضعيف في المذهب مثلاً، نجده راجحاً عند إمام آخر في المذهب، أو عند واحد من علماء الترجيح، وكثيراً ما نجد في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ... ترجيحاً لواحدٍ من هذه الأقوال.
أما (الاكتفاء من الأدلة بالأصح والأصرح) ، فكان يغنينا لتحقيق ذلك كتاب
مختصر في الفقه، مما يُعنى بالدليل، لأنه عندئذ لا يستدل إلا بما هو صريح غالباً، ... وبما هو صحيح كذلك من حيث الاستدلال، وتبقى ميزة المغني في أنه يستوعب
الأدلة الصريحة وغير الصريحة، وهذه الأخيرة تشد الدليل وتقويه كذلك. ...
ومن ميزات المغني كذلك: أنه يعرض لفقه مجموعة كبيرة من علماء السلف، فاكتفى فضيلة الدكتور (بذكر من قال بالمسائل من أصحاب المذاهب المشهورة
غالباً..) وفي هذا حرمان لطالب العلم من معرفة آراء غير المشهورين، وقد يكون
لها قيمتها ومكانتها.
عجبت للأخ الدكتور حين يقول: (أثبت نصوص الأحاديث من كتب ...
الأحاديث..) . فهل معنى ذلك: أن ابن قدامة، رحمه الله، لما أثبت الأحاديث واستدل بها في كتابه أخذها من غير كتب الحديث؟ أم أنه يقصد أن فيها ... اختلافاً عما يجده بين يديه من كتب الحديث؟
فإن كانت الأولى، فأين الدليل؟ . وإن كانت الثانية؛ فإن أقل ما يقال: إن
هذا من اختلاف النسخ والروايات، وهذا معلوم وقوعه كثيراً.. وحتى لو كان غير
ذلك فيمكن الإشارة إلى هذا في حاشية الكتاب.
وأما العناية الكبيرة والإطالة في التخريج، حتى تبلغ التعليقة أحياناً ثلثي
الصفحة بخط دقيق، فهي تتنافى مع فكرة الاختصار، وتناقضها أيضاً.
ويزداد العجب أيضاً من قول فضيلة الدكتور في مختصره: (لم أُعْنَ
بالتعريفات أو المصطلحات أو المفردات شرحاً أو توثيقاً حتى لا أخرج عن طبيعة
الاختصار) فهو قد خرج عن الطريقة قبل قليل. ولو خرج هنا لكان ذلك جائزاً،
فإني أعلم أنه أستاذ جامعي يتلقى الطلبة على يديه أصول البحث العلمي والمنهج
الصحيح، في مواد الشريعة وعلومها، بين جدران كليات الجامعة الإسلامية، ولا
أظن طالب عالم ينازع في أن المصطلحات والتعريفات - في كل علم - من أول ما
ينبغي أن نعنى بها وأن نحددها تحديداً صحيحاً واضحاً، وإلا وقع الالتباس
وضاعت المفاهيم، وتنازعنا فيما نحن متفقون عليه حقيقة.
وأما الاعتذار عن إهمال الشرح والتوثيق للمفردات حتى (لا يخرج عن
طبيعة الاختصار، هذا مع سهولة الوصول إليها، لمن أراد التوسع فيها، في كتب
شروح الفقه والحديث والغريب واللغة) هذا الاعتذار يأتي حجة على صاحبه في
القيام بالاختصار، لأنه يعيدنا ثانية إلى كتب الشروح والحديث.. فكان ينبغي أن
يخفف العناء، فيترك (المغني) لمن أراد هذا التوسع، دون المسخ والاختصار،
ومن لا يريد التوسع فأمامه المختصرات، فهي تكفيه.
إن اعتراضنا على فكرة الاختصار وأسلوبه له ما يسوِّغه، فإن كثيراً من
طلبة العلم سيقتحمون هذه المخاطرة إذا وجدوا من مشايخهم من يستدلون بعمله،
وعندها تكون الفوضى بأجلى صورها، وها نحن نسمع أن أحدهم قد شرع
باختصار (المجموع شرح المهذب) !