في إشراقة آية:
د. عبد الكريم بكار
خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه، فوفر فيها كل شروط التكريم؛
وخلق النار داراً لإهانة أعدائه، فوفر فيها كل شروط الإهانة؛ وخلق الدنيا داراً
لابتلاء الفريقين، فوفر فيها كل شروط الابتلاء.
إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل
بالنسبة لنا ضرورة تتحدانا، وعلينا أن نعيه، ونتصرف معه التصرف اللائق
بالإنسان المكرم المبتلى.
إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار، وهي في
الوقت ذاته ضرورة تتحدى، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً، فإذا لم نستطع
تكيف تلك اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا! وإن التكييف
في موازين هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة،
كما هو الشأن مع الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع
الجماعة؛ فإنه قد كيف كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد. وعلى
هذا فإن البطالة والنوم - غير المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية
المكبلة بالأغلال!
إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى
كي يتحرر من قيودها بتكييفها؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها، وإن
الفكرة الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا؛ لننفذ إلى
جوهرها، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها.
إن الأرض تتحدانا لنزرعها، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي
نصنعه على الوجه الأمثل. إن نديف القطن يتحدى النساجين، فإذا ما صار قماشاً
دخل في طور من التحدي جديد، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف
فقد وقع الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً. فإذا ما عجزت
أمة عن أن تخيط نسيجها بين يديها، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا
إلى قيود على حريتها ووجودها، وإن من القيود ما يقتل، ومنها ما يشل، ومنها ما
يشوه ...
وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة
مغلقة - كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة
لولبية صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق.
إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا،
وإن أشد المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند
مستوردها؛ لأن العمل هو الحرية، والذي يلغيه يلغي الحرية. ذلك لأن السلعة
المصنعة كانت من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها
وتحويلها، وقد صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا.
وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام،
ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا
قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة؛ وترى ثمار ما عملته أيديها..
إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما
يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده. وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم
أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم؛ لشعوره بأن
ذلك على حساب حريته، أي: على حساب وجوده! !
إن العمل هو طريق الخلاص، وهو طريق تحقيق الذات؛ ولكن هل كل
حركة بركة، وهل كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب؟ ؟
لاريب أن الأمر ليس كذلك، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من
الحركة، ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال
العبودية سنين طويلة، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة، وإذا ما
شكلت مادة ما على صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً،
وباعتبارها كيفاً؛ لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة! ! إنه لا بد
من توفر شرطين أساسيين في العمل الكريم، هما الصواب والإخلاص، أي القوة
والأمانة، أو القدرة والإرادة، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من
اعتمادها على الآخر؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على
الصواب، وإن يكن الصواب أساسياً. وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من
اعتمادها على الإخلاص، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر، وكلما
كان الصواب أكبر كان النجاح أكثر، تلك هي سنة الله.
وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد؛ وعلى هذا
الصعيد فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم، وعلى مستوى الأداء
بصورة قل نظيرها في التاريخ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة
ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون، ثم صارت المجتمعات
الإسلامية، من أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء، فما هو السبب الذي أفضى
إلى هذه الحالة المنكورة؟
في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير، يمكن أن نقول أولاً: إن ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد؛ ولكن
بإمكاننا أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في
هذه الظاهرة، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض
جوهر ذلك الإيمان، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى
السلم القيمي للمسلمين، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو
بؤرة محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه، وفي البيئة التي يعمل
فيها.
وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور
داخلها العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي: الله - سبحانه -، الإنسان، الطبيعة.
وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا: (الله، الإنسان) . ...
وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل
على وجود الله، وكونها مجالاً للابتلاء؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً لأمر الله
تعالى، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي تتمحور
العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة. أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على كشف
الطبيعة، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة الإسلامية.
ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً، ونظرته إليها معيارية قيمة؛
فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه
الحضاري، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في
البناء الحضاري، أو فتر. وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية. ولا يكفي
أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة
الحضارة الإسلامية؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية.
ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله؛ فكثيراً ما تفتتح آيات
الأوامر والنواهي بـ[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا..] وكثيراً ما تختتم بـ[إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ..] [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ..] ؛ تذكيراً بأن الايمان المتألق هو الذي يطلق
طاقات المسلم، ويفعل القيم لديه. ولم تشذ الآية الكريمة التي نحن بصددها عن هذا
النسق حيث يقول سبحانه: [وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ
وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] فقد ربطت العمل
برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة.
وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في
حياة المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في
يوم من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم
والكيف! !
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود
أزمة خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند)
عقل فاعل، وعقل سائد. أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر
حين البحث والدراسة، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ. وأما العقل
السائد فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا. فليس العقل
السائد شيئاً غير الثقافة. والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى، والعقل السائد أشبه
شيء بالقمح يلقى فيها؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة
لأمة لا تحرك يداً، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في
حركة اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان
سيؤدي - لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد. فهل كتبنا الحرف الأول في
أبجدية البداية؟