عبد العزيز الحويطان
لمحة تاريخية عن نشأة القواعد الفقهية:
يمكن أن نقسم تاريخ نشأة وتدوين القواعد الفقهية إلى ثلاثة أقسام هي: نشأة
القواعد، وتدوينها، وتنسيقها.
طور النشأة
النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق من نطق بالضاد، وقد أوتي جوامع
الكلم، ولذا كان كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحاديث عبارة عن
قواعد فقهية باقية إلى قيام الساعة، انظر مثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جرحها جبار) [1] أو قوله (لا ضرر ولا ضرار) [2] أو قوله: (البينة ...
على المدعي واليمين على من أنكر) [3] أو قوله (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى
بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) [4] أو قوله: (ما أسكر كثيره فقليله
حرام) [5] وكثير كثير من الأحاديث التي هي قواعد ثابتة تجمع فروعاً شتى في أبواب الفقه.
كما أن لبعض الصحابة كلاماً منظوماً بمثابة قواعد فقهية، مثل قول عمر -
رضي الله عنه-: (مقاطع الحقوق عند الشروط) [6] وقول ابن عباس: (كل
شيء في القرآن أو، أو فهو مخير، وكل شيء) فإن لم تجدوا (فهو الأوَّل
فالأول) [7] .
كذلك أثر كلام عن التابعين بمثابة قواعد في أبواب الفقه، انظر مثلاً إلى قول
شريح (76 هـ) : (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) [8] أو قوله:
(من ضمن مالاً فله ربحه) [9] وهو يماثل القاعدة (الخراج بالضمان) .
ومن التابعين أيضاً خير بن نعيم فقد روي عنه الليث بن سعد المقولة التي
كانت قاعدة فقهية فيما بعد: (من أقر عندنا بشيء ألزمناه إياه) [10] .
وإذا نظرنا إلى كتب التابعين وجدناها مليئة بالأقوال العامة التي تأتي على
نسق القواعد الفقهية، ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث هو (كتاب
الخراج) لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (182 هـ) . ففيه عبارات تتسم بسمات
وشارات تتسق بموضوع القواعد منها:
1- التعزير إلى الإمام على قدر عظم الجرم وصغره [11] .
2- كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال [12] .
3- ليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف [13] وهذا
نظير القاعدة المشهورة (القديم يترك على قدمه) .
4- ليس لأحد أن يحدث مرجأ في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا
مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يحدث ذلك كله [14] . وهذا نظير القاعدة
(لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه) .
5- لا ينبغي لأحد أن يحدث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرهم، ولا
يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم، ولا يسعه ذلك [15] والشطر
الأول يتعلق بقواعد رفع الضرر كما سيأتي والثاني يتعلق بالقاعد: (التصرف على
الرعية منوط بالمصلحة) .
إذاً نستطيع أن نقول أن القواعد كانت موجودة آنذاك ولكنها كانت متناثرة لا
تعرف بأنها قواعد، تأتي عفوية من العلماء، ولا شك أن هذا أدى إلى أن تكون هذه
المقولات مصدر إنطلاق للمتأخرين في هذا المجال.
طور التدوين:
لم تظهر القواعد الفقهية كعلم مستقل إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك أنه
لما اضمحل الاجتهاد وظهر التقليد بدأ كل أناس بدراسة مذهبهم، واستخراج الفنون
من أمثال: الفروق والحيل والألغاز والقواعد الفقهية.
وما يشهد له التاريخ أن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسبق من غيرهم في هذا
المضمار ولعل ذلك يرجع لتوسعهم في الفروع [16] .
أما أقدم نص وصل إلينا في تدوين القواعد الفقهية كعلم، ما ذكره العلائي
الشافعي والسيوطي وابن نجيم في كتبهم عن القواعد: (أن الإمام أبا طاهر الدباس
من فقهاء القرن الرابع الهجري، قد جمع أهم قواعد مذهب الإمام أبي حنيفة في
تسع عشرة قاعدة كلية، وكان أبو طاهر - رحمه الله - ضريراً يكرر كل ليلة تلك
القواعد بمسجده بعد انصراف الناس، وذكروا أن أبا سعد الهروي (488 هـ) -
شافعي - قد رحل إلى أبي طاهر، ونقل عنه بعض هذه القواعد، ومن جملتها
القواعد الأساسية المشهورة وهي:
1- الأمور بمقاصدها
2- اليقين لا يزول بالشك
3- المشقة تجلب التيسير
4- الضرر يزال
5- العادة محكمة [17] ، [18] .
ولعل الإمام الكرخي (340 هـ) قد اقتبس بعض القواعد من الإمام الدباس
وضمها إلى رسالته المشهورة التي تحتوي على سبع وثلاثين قاعدة، ولعلها أول
نواة للتأليف في هذا الفن [19] .
وجاء بعدهم الإمام أبو زيد الدبوسي (430 هـ) حيث ألف أول كتاباً في هذا
الفن وهو يمثل بداية هذا العلم من ناحية التدوين، واسم كتابه (تأسيس
النظر) [20] . وفي القرن السادس عشر لم يحفل بمؤلفات في هذا الفن ما عدا كتاب السمرقندي (540 هـ) وهو (أيضاً في القواعد) ، أما القرن السابع فقد برز فيه هذا العلم بشكل واضح وخرج فيه كم من المؤلفات منها كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام (660 هـ) .
أما القرن الثامن فيعتبر العصر الذهبي لتدوين القواعد الفقهية، ومن المؤلفات
التي خرجت في هذا القرن: الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي كذلك القواعد في
الفقه لابن رجب الحنبلي، والقواعد للمقري وغيرها كثير.
وفي القرن التاسع جدّت المؤلفات على المنهاج السابق مثل كتاب ابن عبد
الهادي (880 هـ) (القواعد والضوابط) .
وفي القرن العاشر رقي فيه التدوين بخروج مؤلفات العلامة السيوطي
(910 هـ) مثل الأشباه والنظائر، كذلك كتاب ابن نجيم (970 هـ) (الأشباه والنظائر الذي ألفه بعد انقطاع للحنفية عن التأليف دام قروناً [21] .
هذه لمحة عابرة عن مسار التأليف في هذا الفن منذ القرن الرابع إلى القرن
العاشر الهجري. لكن السؤال الحري بالإجابة: من قعد في هذه الفترة هل قلد من
سبقه؟ أم أنه أتى بجديد في هذا العلم؟
والإجابة على هذا السؤال أن نقول أن الاحتمالين واردان، فهناك بعض
العلماء نقح في هذه القواعد وزاد في دقتها وقلل من مستثنياتها، مثل الإمام النووي
(676 هـ) . وفي نظرة عاجلة على كتابه المجموع نجد أنه ذكر قواعد منها:
1- أصَّل الفروع الكثيرة بناء على القاعدة المشهورة (اليقين لا يزول
بالشك) [22] .
2- من القواعد الشهيرة (الأصل في الأبضاع التحريم) ذكر في فروع منها:
(إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا
خلاف، سواء كن محصورات أو غير محصورات لأن الأصل التحريم، والأبضاع
يحتاط لها، والاجتهاد خلاف الاحتياط) [23] .
3- أشار إلى قاعدة ترجيح المحرم على المبيح عند اجتماعهما في قوله: (إن
الأصول مقررة على أن كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه
في المنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبية) [24] .
4- ما نقله عن الإمام الجويني: (أنه إذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى) كما جاء في النص التالي: (من فاته صلاة في زمن الجنون والحيض فإنه لا
يقضي النوافل الراتبة التابعة للفرائض كما لا يقضي الفرائض ... لأن سقوط
القضاء عن المجنون رخصة مع إمكانه، فإذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع
أولى…) [25] .
كذلك الإمام ابن القيم، له جهد وباع في تنقيح ودقة بعض القواعد الفقهية،
وفي نظرة عاجلة على كتابيه (إعلام الموقعين) و (بدائع الفوائد) يلمس المرء
جهده الطيب في هذا المجال، من ذلك:
1- (إذا زال الُموجِب زال الُموجَب) ذكرها في فصل عنوانه (طهارة الخمر
باستحالتها توافق القياس) [26] .
2- (لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) قال: (إن الرجل إذا لم يجد
خلف الصف من يقوم معه تعذر عليه الدخول في الصف، ووقف معه فذاً، صحت
صلاته للحاجة) [27] .
3- (إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع،
كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) ذكرها تحت فصل عنوانه:
إجارة الظئر توافق القياس [28] .
4- (المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف) [29] بناء على ذلك اتفقوا
على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزناً له فيه متاع
كثير لا ينتقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة
واحدة [30] .
5- (إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول، مثل التراب
في الطهارة والصوم في كفارة اليمين) [31] .
6- (ما حرّم سداً للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة) كما أبيح النظر للخاطب
والشاهد والطبيب من جملة النظر المحرم [32] .
بهذا يتضح أن عصر التدوين كان تنسيقاً لما سبق وكان فيه استنتاج لبعض
القواعد الفقهية بناء على دراسة الفروع المتشابهة.
مواد التنسيق:
علمنا فيما مضى أن القواعد الفقهية دارت في أول نشأتها على ألسنة المتقدمين
إلى أن جرى تدوينها واتضحت معالمها. لكن القواعد على الرغم من تلك الجهود
ظلت متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمنت تلك المدونات بعض الفنون الفقهية
الأخرى مثل الفروق والألغاز وأحياناً بعض القواعد الأصولية.
(ولم يستقر أمرها تمام الاستقرار إلى أن وضعت مجلة الأحكام العدلية على
أيدي لجنة من فحول الفقهاء في عهد السلطان عبد العزيز خان العثماني في أواخر
القرن الثالث عشر الهجري ليعمل به في المحاكم التي كانت تعمل آنذاك [33] .
(وقد وضعت القواعد في صدر المجلة، وهي قرابة مائة قاعدة، أخذت من
كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم ومجامع الحقايق للخادمي) [34] .
هذه لمحة سريعة عن تطور علم القواعد الفقهية عبر القرون الماضية.
ويلمس الإنسان عدة أمور أثناء تأمله في تاريخ القواعد الفقهية منها:
1- أن القواعد التي جاءت في كتب القواعد ليست كلها قواعد مذهبية.
2- أن بعضها اكتسب صياغة أدق وامتاز بالرصانة بعد المزاولة والمداولة.
ولنأخذ على ذلك مثالاً: القاعدة المشهورة في كون الإقرار إنما يلزم صاحبه المقر
ولا يسري حكمه على غيره، ترى نصها المتداول في كتب المتأخرين وفي المجلة
بعنوان (الإقرار حجة قاصرة) في حين أننا نجد هذه القاعدة عند الإمام الكرخي
بالنص التالي: (الأصل: أن المرء يعامل في حق نفسه كما أقر به، ولا يصدق على إبطال حق الغير، ولا بإلزام الغير حقاً) [35] .
ومثال آخر: القاعدة المشهورة (التصرف على الرعية منوط
بالمصلحة) [36] يوجد أصلها في كلام الشافعي -رحمه الله- بأن (منزلة الوالي من الرعية منزلة الولي من اليتيم) [37] ، ثم اشتهر هذا القول عند كثير من الفقهاء باعتباره قاعدة تحت عنوان: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) [38] .
هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؟
هذه المسألة حساسة ومهمة وعليها تنبني كثير من الأحكام، والراجح فيها -
والله أعلم- أنه لا يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي.
يقول الإمام الجويني في كتابه الغياثي بمناسبة إيراد قاعدتي الإباحة وبراءة الذمة:
(وغرضي بإيرادهما تنبيه القرائح.. ولست أقصد الاستدلال بهما) [39] .
ويقول ابن نجيم في هذه القضية: (إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد
أو الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية) [40] .
أما العلامة على حيدر فيقول في شرح المجلة (فحكام الشرع ما لم يقفوا على
نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد) [41] .
إذاً وضع القاعدة كدليل شرعي الراجح أنه لا يصح وذلك أن القاعدة مستثناة
وصفتها عدم الشمول، ونحن مطالبون بأن نستدل بدليل ثابت صفته الشمول والدقة.
نعم لبعض القواعد صفة أخرى كأن تكون معبرة عن دليل أصولي أو كونها
حديثاً ثابتاً مستقلاً فهنا نستند إلى صفتها كأن تكون دليلاً قرآنياً أو سنة نبوية أو
قاعدة أصولية، والله أعلم.