بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد
من لوازم العدل ومقتضياته:
هذا الباب هو بيت القصيد من هذا البحث، لأن المقصود من إثارة هذا
الموضوع هو التعرض للجوانب العملية التي يفرضها العدل على المسلم، وخاصة
في واقعنا المعاصر، وما نشأ فيه من تفريط في هذه الجوانب، ونقتصر فيها على
ما يلي:
1- التثبت من الأمر قبل الحكم عليه:
إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة، قبل الحكم
عليها، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام، وقبل
التثبت التام منه، ولقد بيّن الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الإسراء، وفي آية
واحدة، المنهج الصحيح الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور، يقول -عز
وجل-: [ولا تقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء 36] .
وحول تفسير هذه الآية يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «قال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس يقول: لا تقل. وقال العوفي: لا ترم أحداً بما ليس لك
به علم. وقال محمد ابن الحنفية: يعني: شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل:
رأيت، ولم ترَ، وسمعتُ، ولم تسمع، وعلمتُ، ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك
عن ذلك كله» ، ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل
بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: [اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] اهـ[1] .
وحول ظلال هذه الآية يقول سيد قطب -رحمه الله تعالى-:
«والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء
فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة، [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] ، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً
كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً، ويضيف
إليه استقامة القلب، ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة.
والتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة، قبل الحكم عليها؛
هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على
هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن
والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية
والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
الأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث، ليست سوى طرف
من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعيتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً
عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد. إنها أمانة الجوارح
والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والعقل
والقلب جميعاً، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة،
وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة.
[ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] .. ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم
تتثبت من صحته؛ من قول يقال ورواية تروى، ومن ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية.
في الحديث:» إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث « [فتح الباري 9/ 5143] ، وفي سنن أبي داود (بئس مطية الرجل: (زعموا) » [عون المعبود 13 / 4591] ، وفي الحديث الآخر: «إن أفرى الفرى أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا» [مسند أحمد 8 / 66] . وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثّبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها، [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] حقاً وصدقاً اهـ[2] .
2-العدل في النقد ومعالجة الخطأ:
هذا الجانب من جوانب العدل يحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية
والجماعية، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها
روح المحبة والإخلاص. ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية
لمعالجة الخطأ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله -عز وجل-، بأن تكون لنا
أسوة حسنة فيه-صلى الله عليه وسلم-، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته -
صلى الله عليه وسلم-، بل إن سيرته -صلى الله عليه وسلم- كلها عدل، ونكتفي
هنا بمثال واحد: ألا وهو موقفه -صلى الله عليه وسلم- من صنيع حاطب بن أبي
بلتعة -رضي الله عنه- في فتح مكة، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها، ليتضح لنا
ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في معالجة هذا
الخطأ، رغم شناعته وخطورته:
روى الإمام البخاري - رحمه الله - في (صحيحه) ، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - قال: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه ... وسلم - وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس-، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة ... خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا
فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها - وهى محتجزة بكساء - فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: يا رسول الله؛ قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: صدق، ولا تقولوا
إلا خيراً. فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو: فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم» اهـ[3] .
من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما
كانت ضخامته
1-المرحلة الأولى: مرحلة التثبت من وقوع الخطأ، وفي هذه الحادثة قد تم
التثبت عن طريق أوثق المصادر، ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله -عز وجل-
إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة،
وأين هي المرأة.
2-المرحلة الثانية: مرحلة التثبت وتبُّين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب
الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله في -صلى الله عليه وسلم- لحاطب: (ما حملك
على ما صنعت؟) ، وهذه المرحلة مهمة، لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن
هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ، وتنتهي القضية عند هذا الحد، فإذ لم تنته
عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لم يكن مقنعاً، ولكنه طمأن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- على صدق حاطب وأنه لازال مسلماً، نقول: إذا لم يكن العذر مقنعاً من
الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
3-المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ، وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته،
وهذا هو الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب -رضي الله عنه-، حيث قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: «أليس
من أهل بدر؟ فقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد
وجبت لكم الجنة-أو: غفرت لكم -» .
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- كلاماً جيداً حول هذا الموضوع، حيث
قال في رده على من قال: إن الله يعافي الجهال مالا يعافي العلماء؟ ...
(فالجواب: أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريبة فيه، ولكن من قواعد الشرع
والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر،
فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن
المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه
يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: (وما يدريك
لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وارتكب مثل
ذلك الذنب العظيم، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد بدراً، فدل على أن
مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم،
فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. ولما حض النبي
-صلى الله عليه وسلم- على الصدقة، فأخرج عثمان -رضي الله عنه- تلك
الصدقة العظيمة، قال: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعدها) ، وقال لطلحة لما تطأطأ
للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: (أوجب طلحة) . وهذا موسى كليم الرحمن -عز وجل- ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه
له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه
ليلة الإسراء في النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وقال: شاب بعث بعدي يدخل
الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي؟ وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي
الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن
الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى
الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه، ولا
تخفي منزلته، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من
الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته
على إساءته وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان
التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي
طبعهم أحياناً من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم) اهـ[4] . خلاصة ما سبق حول هذا اللازم:
أن العدل في القول والفعل، ومعالجة الأخطاء لو سلكنا فيها ذلك المسلك
النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من كيل التهم، والتشهير، وتتبع العثرات، والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وأولياؤه، ولا يفرح
الشيطان بشيء كفرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين، فقد روى الإمام مسلم-
رحمه الله- في (صحيحه) عن جابر -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه،
فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؟ فيقول:
ما صنعتَ شيئاً، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين
امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت) ، قال الأعمش: أراه قال:
يلتزمه [5] . فإذا كان فرح الشيطان بالفرقة بين الزوجين بهذه الدرجة فكيف يكون فرحه بالفرقة بين دعاة المسلمين؟ ولو أن أحدنا إذا سمع شائعة عن مسلم أو طائفة ما قام بالتثبت منها، فإنه يصبح أمام أحد أمرين: إما أن تكون الشائعة لا أصل لها، وأنها مجرد ظنون وأوهام كاذبة، فيقضى عليها في مهدها؛ وإما أن يكون الأمر صحيحاً بعد التثبت، فيصار إلى المرحلة الأخرى، ألا وهي: البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذا الخطأ، إما من صاحب الشأن، إن كان ذلك ممكناً، أو سؤال من يعرفه، أو من التمعن فيما كتبه، إن كان ذلك ... مكتوباً ... الخ.
وهذا هو مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قال لحاطب: (ما حملك
على ما صنعت؟) ، وإذا اتضح الدافع المؤدي إلى وجود هذا الخطأ وكان مقنعاً من
الناحية الشرعية، فإن الأمر ينتهي عند ذلك.. وإن لم يكن مقنعاً فإنه يصار إلى
المرحلة الثالثة، ألا وهي النظر إلى حسنات هذا الشخص وبلائه وجهاده، لعل له
حسنات عظيمة ينغمر فيها هذا الخطأ ويصبح ضئيلاً في الوقت الذي يسعى لتعديل
الخطأ والمناصحة فيه بمحبة وإخلاص وحكمة.
ولعله قد تبين لنا الآن من الحديث حول هذا اللازم المهم من لوازم العدل،
وتبين لنا الفرق بين العدل في القول والعمل، وأثر ذلك في النصيحة والإصلاح
والائتلاف، وبين الاعتداء في القول والعمل، وما ينتج عنه من تشهير وفرقة
واختلاف، وذلك في وقت نحن معاشر أهل السنة والجماعة بحاجة شديدة إلى
الوحدة والائتلاف لا إلى الفرقة والاختلاف.
3- الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له:
ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم العدل تحقيقاً، لأنه يمثل -في نظري- قمة
العدل والتقوى والورع، حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين اليوم فضلاً عن
عامتهم إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك، حتى يحسبونه غلبة، بل إنك
ترى الكثير منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم وهمهم الوحيد هو تتبع
العثرات، والفرح باصطيادها، في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك (من إصابة
غيرهم للحق) فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا -والعياذ بالله- هو الظلم والحقد
والحسد والذي لا يلتقي مع العدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي
ذكرها ابن رجب -رحمه الله- حول هذا الأمر حيث قال: (وقد استحسن الإمام
أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما
ناظرك أحد إلا قطعته؛ فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث، أفرح إذا أصاب
خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه أو معنى هذا، فقال أحمد: ما أعقله من رجل) [6] .
4- الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته:
ومن المواقف المؤسفة التي تنافي هذا اللازم: أننا نرى اليوم كثيراً من الناس
يفرطون في محبتهم أو كرههم، فإذا أحبوا شخصاً أو طائفةً ما، فإنهم يفرطون في
هذا الحب، ولا يعدلون فيه، حيث إنهم لا يرون إلا الحسنات، ويغمضون أعينهم
عن الأخطاء والسيئات ويبررونها ويؤولونها، وكأن من أحبوه لا يجوز عليه الخطأ، وهذا غلو واعتداء في الحب، قد يؤدي إلى الغلو في الرجال وتقديسهم، وفرق
بين التقدير والتقديس.
وفي مقابل ذلك إذا أبغضوا شخصاً أو هيئة ما فإن هذا الكره ينسيهم كل
الحسنات والإيجابيات، أو أنهم يشككون في نوايا فاعليها، في الوقت الذي لا
يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها، ومعلوم ما في ذلك من ظلم واعتداء
ومجانبة للعدل والإنصاف، وما أظن أحداً من المسلمين يوافق على هذا المنهج
الجائر، لكن القناعات النظرية شيء والتزامها في الواقع شيء آخر! !
بقي أن نعرف المنهج الشرعي في مثل هذه المواقف، ألا وهو: الشهادة
للمحسن أنه محسن، ويذكر له ذلك بتجرد وإنصاف، والشهادة للمسيء بأنه مسيء، والنصح له في ذلك، وتلمس العذر، إن كان ثمة عذر شرعي لإساءته (كما سبق
في المنهج الشرعي لمعالجة الخطأ) والانتباه إلى أن كل بني آدم خطاء، وكل يؤخذ
من قوله ويرد إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وأن الاعتدال في الحب
والكره من لوازم قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] الآية [النساء 135] .
ويا ليتنا نرجع إلى سيرة سلفنا الصالح -رضي الله عنهم-، وكيف كانوا في
مواقفهم مع المخالفين؟ ، وكيف كانوا يقوِّمون الرجال؟ . فلقد روى الإمام مسلم في
(صحيحه) عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، ... ... فقالت: من أنت؟ فقال رجل من أهل مصر، فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم؟ فقال: ما نقمنا منه شيء، إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وفي بيتي هذا:» اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به «.
ويعلق الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث بقوله: (وفيه أنه ينبغي أن يذكر ...
فضل أهل الفضل، ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها) [7] .
وهذا الإمام ابن كثير -رحمه الله- يقول في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية
بعد كلام طويل: (وبالجملة كان - رحمه الله- من كبار العلماء، وممن ... يخطىء ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه ... أيضاً مغفور له، كما في (صحيح البخاري) : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهو مأجور، وقال الإمام مالك بن أنس: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-) اهـ[8] . ...
ويقول الإمام ابن رجب -رحمه الله - في كتابه (الفرق بين النصيحة ... والتعيير) :
(ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني
عليه، ويقول: وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضاً. وكما قال وكان كثيراً ما يعرض عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ومأخذهم من
أقوالهم، فلا يوافقهم في قولهم، ولا ينكر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم، وإن لم يكن
هو موافقاً على ذلك كله) اهـ[9] .
ويذكر ابن الجوزي -رحمه الله -في كتابه (سيرة عمر) (202) قول عمر -
رضي الله عنه -: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظن
بكلمة خرجت من أخيك المسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وما كافأت من
عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه) اهـ[10] .
ونختتم هذا اللازم من لوازم العدل ببعض آراء مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- من مخالفيه سواء في الفروع أو الأصول:
يقول -رحمه الله- في ج 3 ص 348 في جوابه عن قوله -صلى الله عليه
وسلم-: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ما الفرق؟ ، وما تعتقده كل فرقة
من هذه الصنوف؟ ، فقال في معرض جوابه:
( ... ومما ينبغي أيضاً أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في
أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول
عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على
غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من
الباطل وقال من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد باطلاً
بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل
هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه
ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل
ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها؛ بخلاف من والى
موافقه وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون
موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه فهؤلاء من
أهل التفرق والاختلافات) اهـ[11] .
5- الابتعاد عن النجوى:
إن مما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان
المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم، وهى عامل مهم في ترويج الشائعات.
يقول الله عز وجل: [إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَذِينَ آمنوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ
شَيْئاً إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] [المجادلة 10] والنجوى لا تأتي
بخير إلا في أحوال ثلاثة ذكرها الله عز وجل في سورة النساء حيث قال سبحانه:
[لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ ... النَّاسِ] ؟ وما سوى ذلك فهو شر وتفريق بين المؤمنين.
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما، ينقسمون، حسب
تعاملهم مع هذه الشائعات إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يقبل هذه الشائعات على علاتها، ويكتمها في نفسه،
ويرتب عليها أموراً ومواقف من غير تثبت ولا تبين.
الصنف الثاني: من يقوم بالتناجي بها، بعيداً عن صاحب الشأن فيها،
ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة، وإذكاء الشائعة وانتشارها.
الصنف الثالث: من يسارع إلى التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة، ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
ولو حاكمنا معاملة هذه الأصناف الثلاثة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -
صلى الله عليه وسلم- لاتضح لنا أن الصنف الأول والثاني مخالفون للشرع، وأن
طريقة الصنف الثالث هي الطريقة الشرعية التي تقوم على التثبت وحب الخير
للمسلمين ورعاية حقوقهم وأعراضهم والتماس الأعذار لهم. وهذه الطريقة هي
الطريقة الشرعية في عتاب المسلم لأخيه المسلم، إذا وصله من أخيه ما يسوءه.
6-سلامة القلب:
يقول الله عز وجل: [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء 88 - 89] ، وقد ورد في تفسير ابن كثير حول هذه الآية أن
القلب السليم هو السالم من الشرك، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما،
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن. اهـ[12] .
وعلق القرطبي في تفسيره 15 / 91 عن عوف الأعرابي قال: سألت محمد
بن سيرين ما القلب السليم؟ قال: الناصح لله عز وجل في خلقه. اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل ... مسلم) [13] . وعلق ابن حجر رحمه الله بقوله: ورواه ابن حبان في صحيحه وزاد: (فكان جرير إذا اشترى أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر) .
من ذلك يتبين أثر سلامة القلب في العدل مع الناس، حيث أن صاحب هذا
القلب مطمئن البال هادئ النفس يحب الخير للناس ويبذل النصح لهم وهذه هي
صفات أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين مدحهم الله عز وجل بقوله:
[والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] [الفتح: 29] .
ومثل هذا يلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات
فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير، لا مجرد الرد والخصومة
والجدال، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه، حيث إن
الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف
فضلاً عن الأصول لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
وخلاصة القول في (سلامة القلب) أنه أصل للوازم السابقة كلها، فبسلامة
القلب، والنصح لله عز وجل في الخلق، يتم العدل في جميع الأمور السابقة،
وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينقم لنفسه. وقد ذكر الإمام
ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهداً فيما يصيب المسلم من أذى
الخلق وجنايتهم عليه، نكتفي بمشهد واحد حيث يقول -رحمه الله-:
(المشهد السادس: مشهد (السلامة وبرد القلب) وهذا مشهد شريف جداً لمن
عرفه، وذاق حلاوته. وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب
الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه. بل يفرغ قلبه من ذلك. ويرى أن سلامته
وبرده وخلوه منه أنفع له. وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا
اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده، وخير له منه. يكون بذلك مغبوناً والرشيد لا
يرضى بذلك. ويرى أنه من تصرفات السفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل
والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام) اهـ[14] .
ولقد اطلعت على رسالة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى
تلامذته بدمشق، وفيها تبرز هذه الصفة بجلاء، ولولا خشية الإطالة لنقلتها بتمامها، ولكن نكتفي بمقاطع منها، يقول -رحمه الله- بعد السلام والأشواق إلى تلامذته:
» وتعلمون من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين تأليف القلوب،
واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: [واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] ويقول: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر
بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف وأهل هذا الأصل: هم أهل
الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة «إلى أن قال في نفس الرسالة:
» وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون -رضي الله عنكم- إني لا
أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين -فضلاً عن أصحابنا- بشيء أصلاً، لا
باطناً، ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي
من الكرامة والإجلال والمحبة، والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه ولا
يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مشكور،
والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله، ولسائر المؤمنين فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان
قصر، فلان ما عمل، فلان أُوذى الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية،
فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله بل مثل هذا يعود
على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء الله. وقد
عفا الله عما سلف «إلى أن قال -رحمه الله- في نفس الرسالة:» فلا أخب أن
ينتصر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم. وأنا
أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي. والذين
كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي «اهـ[15] .
7- الصدق والوضوح:
إن هذا اللازم يعتبر أيضاً سبباً من أسباب حصول العدل فهو نتيجة وسبب في
نفس الوقت، لأن الصدق يؤدي إلى العدل، والعدل يستلزم الصدق والوضوح في
الأقوال والأفعال. وأردت من إيراد هذا اللازم الإشارة إلى ما يقع في زماننا هذا
من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض، وعدم الوضوح في
المقاصد والوسائل، وهذا كله يؤدي -شئنا أم أبينا- إلى مجانبة الصدق والوقوع في
الكذب الصريح.
وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين من الأمراض الخطيرة
التي تؤدى إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين، وعدم اطمئنان بعضهم إلى
بعض في الوقت الذي يفترض الصدق في المسلم، وأن لا يُساء الظن به، أو أن
مراده من كلامه كذا وكذا.. الخ. ولقد مرَّ بنا في الطريقة التي عالج بها الرسول -
صلى الله عليه وسلم- خطأ حاطب -رضي الله عنه-، كيف أنه -صلى الله عليه
وسلم- عندما سمع من حاطب عذره قال: صدق لا تقولوا إلا خيراً. ولم يذهب إلى
سوء الظن به، واتهامه بالكذب، أو باللف والدوران كما يقولون. وإن الصدق
منجاة وخير كله في الدنيا والآخرة. والصدق في الحديث أمر لازم لاطمئنان القلوب
بعضها ببعض، وطريق إلى التآلف وحصول البركة، فلقد روى البخاري ومسلم
وغيرهما عن حكيم بن حزام -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال:» البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما « [16] .
فإذا كان الصدق سبباً لحصول البركة للمتبايعين على سلعة، والكذب والكتمان
يمحق بركة بيعهما، أقول: إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا فكيف يكون
الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة لأن الدعوة عبادة يراد بها
الدار الآخرة، فلأن يصدق هذا الحديث على ذلك من باب أولى والتجربة أكبر شاهد، حيث أن الصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه
نتائج طيبة، ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم، والعكس بالعكس فإن
الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنها إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل.
وهنا يجب إيضاح أن لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين الكتمان فإن
كان لابد متحدثاً فليكن صادقاً وواضحاً وإلا فليصمت. ثم إننا نقصد بكل ما سبق
أهمية هذا اللازم بين المسلمين بعضهم مع بعض، أما الكافرون والمنافقون فإن
التعامل معهم يجب أن يكون بحذر، وتقدير ما ينبغي أن يقال، وأن لا يطلعوا على
أسرار المسلمين بحجة الصدق.
الخاتمة:
ولعلنا في هذه الخاتمة نجمل ما تم تفصيله في ثنايا هذا البحث حيث طرحت
فيه النقاط التالية:
1- إن الإنسان في طبيعته كان ظلوماً جهولاً.
2- إن الأمانة العظيمة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض لن يستطيع
أن يحملها الإنسان إلا بالعلم والعدل.
3- إن العدل كلمة يراد بها التوسط في الأمور وذلك بين الإفراط والتفريط،
فالجافي والغالي كلاهما قد جانب العدل.
4- للعدل صور كثيرة مردها إلى ثلاثة أقسام: العدل الأعظم وهو توحيد الله
عز وجل، والعدل مع النفس، والعدل مع العباد.
5- كان التركيز في هذا البحث على العدل مع العباد وذلك للحاجة الماسة إليه، خاصة في هذا العصر الذي بغى بعض الناس فيه على بعض.
6- للعدل مقتضيات ولوازم كثيرة لا يمكن استيعابها في مثل هذا البحث، وقد
ركزت على أهمها وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الناس من إقالة العثرات،
وإحسان الظن، وقطع الطريق على الشيطان الذي يسعى إلى إيجاد الإحن والأحقاد
والظلم بين المسلمين.
7- إن سبب الاختلاف والتفرق بين المسلمين يرجع إلى أمرين مهمين:
أ- لجهل الناشئ من فقدان أو قلة العلم بدين الله والذي يؤدي بدوره إلى الأخذ
بالباطل محسوباً أنه هو الحق.
ب- الظلم الناشئ من الهوى وعدم العدل والإنصاف، ومثل هذا قد يعلم
صاحبه أن الحق مع مخالفه، ولكن التعصب والهوى ومجانبة العدل يجعله يصر
على الباطل، ولو علم أنه باطل.
8- إن وسائل رفع الجهل عن النفس يتم بتعلم دين الله عز وجل وحدوده،
كما بلغها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وسار عليها سلف الأمة من
التابعين وتابعيهم من أئمة هذا الدين وأعلامه.
أما وسائل رفع الظلم والتحلي بالعدل والإنصاف فإنه لا يتم بالتعلم فقط، فقد
يعلم الإنسان بتلك الوسائل ولا يعمل بها، وللعدل مفاتيح وعلامات وتباشير أجملها
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- بقوله:
» وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، ... وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسر لكل باب مفتاحاً،
فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد. والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات
والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد: أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية
الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً «اهـ[17] .
خلاصة القول في مفتاح العدل أنه تقوى الله عز وجل، والتجافي عن دار
الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، حيث يقول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] حيث إنه لا مفتاح للعدل إلا
بالتقوى، والتقوى فقط.
وتبقى كلمة أخيرة في هذه الخاتمة أنصح نفسي وإخواني الدعاة من أهل السنة، بأن نتقي الله عز وجل، ونصلح ذات بيننا، وان نلزم أنفسنا بالعدل في أقوالنا
وأعمالنا، وأن نحذر من نزغات الشيطان، فكما أسلفنا في ثنايا البحث إن أعظم
فرحة للشيطان يوم أن يفرق بين المسلمين، ويخالف بين كلمتهم، فهو ما يألو
يسعى للتحريش بين المسلمين كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن جابر -رضي الله
عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» إن الشيطان يأس أن يعبده
المصلون في جزيرة العرب ولكن رضي بالتحريش بينهم « [18] .
وإن الواجبات الملقاة على أهل السنة اليوم أكبر وأضخم مما تستطيعه طائفة
واحدة من طوائف أهل السنة، فإن لم يسعَ المصلحون والمتقون من أهل السنة
لجمع الكلمة وتأليف القلوب فإن فساداً كبيراً لاشك نازل كما قال عز وجل:
[والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ]
[الأنفال 73] أي إلا يوالى المسلمون ويعادي الكافرون تكن فتنة للناس. [19] .
أسأل الله عز وجل أن يجمع دعاة الإسلام على الحق، وأن يؤلف بين قلوبهم
ويسدد آراءهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.