بعض القصص والمواقف نسردها عليكم وهي تعكس مدى اهتمام السلف الصالح بكيفية تربية الأولاد، وكيف كان يربى أولاد الصحابة وثمرة ذلك، منها: ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: (وقف غلام عن يميني يسألني في غزوة بدر فقال: يا عم! دلني على أبي جهل؟ -انظر كيف تربى هذا الولد على عداوة أعداء الله- فقلت له: وما لك يا بني من أبي جهل؟! فقال: والله إن رأيته لن أفلته، لقد كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا غلام آخر عن يساري، فسألني مثل الأول، ثم تحتدم المعركة ويشتد بأسها فيلتفت عبد الرحمن إلى الغلامين فقال لهما: ذاك الذي تبغيان، ذاك أبو جهل، فينطلقان مسرعين كل منهما يريد أن ينال شرف السبق في طعن عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيضربانه ضربة قوية فيسقط أبو جهل فرعون هذه الأمة على الأرض، فيتسابقان بزف البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: كل واحد منهما: أنا الذي قتلته يا رسول الله، فيقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: أرياني سيوفكما، فيرى عليهما آثار الدماء، فقال لهما: كلاكما قتله) فهذا ثمرة التربية على التوحيد، وعلى الولاء لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله تبارك وتعالى.
وهذه قصة إحدى المدرسات كانت تأمر الطلاب الصغار بأن ينشدوا: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي فكان بين الطلاب صبي صغير رفض أن ينشد، فقالت له: لماذا لا تنشد مع الأطفال؟ قال: أنا حبي وفؤادي لله، بمنتهى العزة هذا الطفل الصغير يفهم أن حبه وفؤاده لله تبارك وتعالى! أيضاً من هذه الوقائع: أنه مر الحارث المحاسبي وهو صبي بصبيان يلعبون على باب رجل تمار يبيع التمر، فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب التمر ومعه تمرات فقال للحارث: كل هذه التمرات، فقال الحارث: من أين أتيت بالتمرات؟ قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل فسقطت هذه التمرات منه، فخذها أنت كلها، فقال الحارث له: أتعرفه؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى إخوانه الصبيان الذين كانوا يلعبون فقال لهم: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: والله ما تنفلت من يدي حتى تقول لي ما في نفسك مني، فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته، كما تطلب الماء إذا كنت عطشان، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين السحت وأنت مسلم؟! فقال الشيخ: والله لا اتجرت للدنيا أبداً.
فهذه لم تأت من فراغ، بل هي ثمرة التربية الصحيحة التي أخرجت مثل هذه النماذج.
قال ابن غفر المكي: بلغني أن أبا سليمان داود بن نصير الطائي رحمه الله لما بلغ من العمر خمس سنوات أسلمه أبوه إلى المؤدب، فابتدأ بتلقين القرآن، وكان لقناً -يعني: كان يحفظ بسرعة- فلما تعلم سورة: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] وحفظها رأته أمه يوم الجمعة وجهه مقبلاً على الحائط يشير متفكراً بيديه، فخافت أمه على عقله فنادته: قم يا داود فالعب مع الصبيان، فلم يجبها، فضمته إليها وقالت: يا ويلاه، فقال: مالك يا أماه؟! أبك بأس؟ قالت: أين أنت؟ قال: مع عباد الله قالت: أين هم؟ قال: في الجنة، قالت: ما يصنعون؟ قال: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13]، ثم مر في تلاوة السورة وهو شاخص كأنه يتأمل شيئاً حتى تلا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]، ثم قال: يا أماه ما كان سعيهم؟ فلم تدر ما تجيبه، فقال لها: قومي عني حتى أتنزه عندهم ساعة، فقامت عنه، فأرسلت إلى أبيه، فأعلمته شأن ولده، فقال له أبوه: يا داود! كان سعيهم أن قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقولها في أكثر أوقاته حتى يكون ممن سعى هذا السعي المشكور.
ومن ذلك ما حكاه ابن غفر المكي أن أبا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي لما بدأ يحفظ سورة المزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، قال لأبيه: يا أبت من الذي يقول الله تعالى له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]؟ قال: يا بني! ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبت مالك لا تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: يا بني! إن قيام الليل خصص به صلى الله عليه وسلم دون أمته، فسكت عنه، واستمر في حفظ السورة فوصل إلى قوله تعالى: {أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20]، فالولد تأمل قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20]، وأبوه قال له: إنها خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام دون سائر الأمة، فقال: يا أبت! إني أسمع أن طائفة كانوا يقومون الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم فمن هذه الطائفة؟ قال: يا بني! أولئك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قال: يا أبت! فأي خير في ترك ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! فقال: صدقت يا بني.
يعني: أقام عليه الحجة أن قيام الليل ليس خاصاً بالرسول عليه الصلاة والسلام وإنما خص بالوجوب لكن الاستحباب للأمة كلها، فكان أبوه بعد ذلك يقوم من الليل ويصلي، فاستيقظ أبو يزيد في ليلة فإذا أبوه يصلي فقال: يا أبت! علمني كيف أتطهر وأصلي معك؟ فقال أبوه: يا بني! ارقد فإنك صغير بعد، قال: يا أبت إذا كان يوم {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] أقول لربي: إني قلت لأبي: علمني كيف أتطهر لأصلي معك، فأبى وقال لي: ارقد فإنك صغير بعد، أتحب هذا؟ أتحب أن أشكوك إلى الله؟ فقال له أبوه: لا والله يا بني ما أحب هذا، وعلمه فكان يصلي معه!