الزهد في الدنيا

الصفة الثانية التي لابد أن يتصف بها العالم المسلم التقي الورع، وهذا ناتج عن الأمر الأول، فالمسلم إذا لم يكن مخلصاً فلن يستطيع أن يحقق هذه الصفة ألا وهي: الزهد في الدنيا، تريد أن تكون عالماً ربانياً؟ تريد أن تكون عالماً تقياً ورعاً؟ تريد أن تكون عالماً مثاباً من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ لا تطلب الدنيا بعلمك، وهذه معضلة، تكلمنا في الدروس السابقة عن علوم الحياة، وذكرنا أن هذه العلوم تورث في الأمة قوة، وتحسن الاقتصاد، وتقيم المصانع والشركات، وتكثر من الإنتاج، فتكثر الأموال، فقد يفتن الإنسان في هذه الدنيا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).

إنها لقضية خطيرة جداً أن تطلب بعلمك هذا الدنيا، سواء كان من علوم الشرع أو من علوم الحياة، هناك أناس يتعلمون علوم الشرع من أجل الدنيا، وإننا لنرى مشاهد صعب أن نتخيل أنها من مشاهد الدعاة أو العلماء، لكن موجودة، وأحياناً يفتح الله عز وجل الأبواب على العالم فتنة له، فقد يقع فيها، فلا يصرف علمه إلا في الوجه الذي يأتي بمال.

هناك أحد الإخوة أعرفه كان إمام مسجد في دولة غربية، وكان يأخذ راتباً جيداً على هذه الإمامة، ومرت الأيام وانفصم العقد بينه وبين إدارة المسجد وانتهى عقده، فهو لا يريد أن يرجع إلى بلاده، فقرر أنه يجلس في تلك البلاد ويعمل في أي عمل آخر غير الإمامة في المسجد، ومع كونه إلى جوار المسجد فإنه لم يعد يأتي إلى صلاة الجماعة في المسجد الذي كان يقبض مرتبه منه، ذهب المرتب وذهبت صلاة الجماعة معه، فهذا الشيخ بنفسه يحكي لي أن عندهم إجازة الأوقاف تكون يوم الخميس على ما أعتقد، أو في يوم من أيام الأسبوع غير الجمعة، ويقول: إنهم يعطون للعالم أو للإمام بيتاً فوق المسجد الذي هو فيه أو قريباً منه جداً، فهناك من الأئمة في نفس يوم الإجازة لا ينزل يصلي وهو بجانب المسجد، ولسان حاله: أنا موظف أصلي بهم الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإذا كان التفتيش في العصر فقد لا يأتي المغرب، لكن العصر لابد أن أكون موجوداً من أجل التفتيش، وكان يذكر ذلك قبل أن يترك المسجد، كان يذكر ذلك بكل حزن وأسى، كيف يوجد من الأئمة من يفعل ذلك؟ فلما تعرض هو لترك الإمامة وقطع الراتب وقع في نفس الأمر، بل لم يعد يحضر الصلوات بالكلية؛ بسبب أنه انقطع عنه راتب الإمامة! هذه صورة نراها في بعض العلماء والدعاة.

وكنت في الأردن من قبل فترة، فاشتكى إلي أناس أن هناك إذاعة من الإذاعات تريد أن تبث أحاديث إسلامية، وكان هناك واحد من الدعاة فطلبوه من أجل أن يعد حديثاً في الإذاعة، ليعلم الناس وينشر العلم، فقال لهم: لا أدخل الأستوديو حتى تدفعوا مبلغ كذا، وبالتالي ليس معهم هذا المبلغ الضخم الذي طلبه وحدده، فلم يأت مع وجود الوقت ووجود الفرصة وكل شيء؛ لأنه أصبح المعيار بالمال هذا بـ (5000) دولار وهذا بـ (1000) دولار، وهذا بـ (500) جنيه، وهذا بكذا، فأصبح تقييم الأعمال على هذه الصورة، لا يهم عندهم أن يكون العمل أنفع وأكثر انتشاراً وأفيد للأمة؛ لأن هذه القضايا كلها تعتبر قضايا جانبية، فأصبحت القضايا الرئيسية: هذا بكم، وهذا شيء خطير، وهو موجود من أعداد كبيرة جداً، بينما عندما تراجع قصص الأنبياء في القرآن الكريم الذين هم القدوة في الدعوة والقدوة في العلم، تجد دائماً يذكر ربنا سبحانه وتعالى عنهم: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} [هود:29]، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90]، وهذا واضح جداً، فإذا ربط العالم علمه وربط دعوته وعمله بالمال ضاعت دعوته تماماً، فلا يصبح من العلماء، وإن أصبح عالمًا أصبح عمله وبالاً عليه؛ لأن نيته ليست لله عز وجل.

عندنا مشكلة متعلقة أيضاً بموضوع الإخلاص، وهي: عندما أشتغل بالأعمال الحياتية، مثل: الطب والهندسة وغيرهما فإنه يتعرض فيها الإنسان لنفس الأمور، فهل أنا أطلب بعملي فيها المال وأكون حريصاً عليه، أم أنني أطلب الآخرة وأعيش فقيراً، ويحكم على العالِم أن يكون فقيراً؟ لقد ذكرنا قبل ذلك أن هناك علماء كانوا أغنياء، لكن المال ليس هو القضية الأساسية في ذهنه، المال سيأتي سيأتي، إن كان من رزقك فلن يفوتك فعلاً، سواء أذللت نفسك أو أعززتها، طلبته أم لم تطلبه، تأتيك الدنيا وهي راغمة.

فالإنسان يطلب العلم لله عز وجل، إن جاء المال فهذه نعمة من الله عز وجل يجب أن تشكر وتنفق في سبيله سبحانه وتعالى، إننا مطالبون بتحصيل العمل لأجل المعاش، عندك أسرة وعندك أولاد وعندك حياة لابد أن تقيم هذه الحياة، لكن أن تصرف حياتك لهذه الأمور فقط فهذا غير مرغوب، وهذا غير ممكن لمن أراد أن يكون عالماً.

فهذا الإمام مالك ترك له أبوه ثروة هائلة، فأنفقها كلها في سبيل تحصيل العلم وعلى طلبة العلم، حتى اضطر في آخر حياته لأن ينقض سقف بيته من الخشب ويبيعه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015