أول هذه الأخلاق والصفات: الإخلاص، لماذا تتعلم هذا العلم؟ وأي شيء تريد من وراء تحصيل هذا العلم؟ ولماذا تريد أن تصبح عالماً؟ ما هي النيات التي في قلبك؟ إننا في حساباتنا في الدنيا نحاسب فقط على الظاهر، فأنت بالعلم الذي حصلت عليه قد تحصل على وظيفة، تحصل على مال، تحقق منافع دنيوية، يتساوى في ذلك المسلم وغير المسلم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لكن الشيء الخطير أن يكون الإنسان المسلم بعدما حضر هذه الدروس وتحمس جداً لقضية العلم وأصبح عالماً من العلماء ويشار إليه، وقال عنه الناس: هذا عالم، هذا هدف الطالب في البداية أو في النهاية، فهدفه إجمالاً أن يشار إليه بالبنان، ويشار إليه بالعلم، ويعرف في وسط الناس بصفة العلم، هذا شيء خطير؛ ولذلك لا تجد كتاباً من كتب السنة أو من كتب المسانيد أو من غيرها إلا ويحرص صاحب الكتاب صاحب الصحيح أو صاحب السنن على أن يبدأ كلامه ويبدأ حديثه وتبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر صفة الإخلاص؛ لأنه بدونها كل شيء سيضمحل ويتلاشى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)، هذا أول واحد يحكم عليه يوم القيامة أول ما يقضى بين الخلائق، هذا الإنسان الذي مات في الدنيا في أعين الناس مات شهيداً مقاتلاً في قضية عادلة، فهذا في أرفع الدرجات في أعين الناس، لكنه قاتل ليقول عنه الناس: إنه جريء، فقد قيل، ما طلبته حصلته، كذلك أنت ماذا تريد من وراء العلم؟ ماذا تريد من وراء السلطان؟ ماذا تريد من وراء الجاه؟ من وراء الوضع الاجتماعي؟ ما أردته قد تحصل عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، لو كنت تريد هذا فقط فقد أخذته، وليس لك في الآخرة نصيب.
الثاني الذي يحكم عليه يوم القيامة، وهذا مربط الفرس في قصتنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل تعلم العلم وعلمه) يعني: لم يكن فقط من العلماء بل كان عالماً إيجابياً، فقد تعلم العلم وعلم الناس، لكن القلوب تنطوي على أهداف شخصية ومصالح خاصة، فهو لم يطلب رضا الله عز وجل في هذا العلم الذي حصل عليه، فهذا الرجل الثاني: (رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل)، يعني: أنت أخذت نصيبك، وما كنت تريده في الدنيا حصلت عليه، فأنت عندما كنت في الدنيا كان الناس يشيرون إليك: ما شاء الله فلان عالم من العلماء، ما شاء الله فلان قارئ للقرآن ومجيد للتلاوة ويحسن التفسير والتأويل، كل الناس يتكلمون بهذا، وأنت سعيد بهذا الكلام، ولم ترد وراء ذلك شيئاً لم تنظر إلى جنة ولم تخف من نار ولم ترج مثوبة الله عز وجل، ولم تخش عذاب قبر ولم تطلب نعيمه، حياتك كلها منصبة في الدنيا، فلن تظلم ستأخذ أجرك كاملاً في دنياك، لكن ليس لك في الآخرة نصيب، (ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
الرجل الثالث: (ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار).
وهنا وقفة هامة جداً: أن الله عز وجل أول ما يسعر جهنم يسعرها بهؤلاء، مع وجود المنافقين الكثر، ومع وجود الكفار، ومع وجود أصحاب المعاصي الكبرى، ممن زنا ومن سرق فعل كذا وكذا من الموبقات، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى يبدأ بهؤلاء؛ ليثبت لنا ويوضح لنا أن الأعمال التي ليس فيها إخلاص أعمال محبطة لا وزن لها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فهذا أول شيء ينبغي أن تحرص عليه من الآن من هذه اللحظة، وهذا شيء صعب وليس بالسهل، لا تظن أن قضية النية وقضية الإخلاص عمل يوم أو عمل ليلة أو عمل لحظة أو عمل سنة من سنوات طالب العلم، أبداً، بل هذا الأمر مطلوب منك في كل لحظة من لحظات حياتك؛ منذ سمعت هذا الكلام وإلى يوم الممات؛ لأن النفس تتغير والقلب يتقلب، تكون في أول عملك ناوياً لله عز وجل لكن مع مرور الوقت أو في أثناء نفس العمل الذي كن