وبما جئت به" فإن مقتضى ذلك أن مَنْ جحد شيئًا مما جاء به -صلى الله عليه وسلم-، ودُعِي إليه، فامتنع ونصب القتال، أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر. قال: وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.
قال في "الفتح": وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث: "حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" ما استشكل قتالهم، للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. قال عياض: حديث ابن عمر نصٌّ في قتال مَنْ لم يصلِّ ولم يترك، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر، دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه، وقد مرَّ هذا، وزيادة، عند الحديث المذكور في الباب المار ذكره.
وأُجيب عمّا تأوّلوه في الآية بأن الخطاب في كتاب الله تعالى على ثلاثة أقسام: خطاب عام، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}. وخاص بالرسول، في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} حيث قطع التشريك بقوله: "لك". وخطاب مواجهة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو وجميع أمته في المراد منه سواء، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ}، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم، وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإِمام لصاحبها، فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله تعالى ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، فإنه باقِ غير منقطع، ويستحب للإمام أن يدعو للمتصدق، ويرجى أن يستجيب الله له، ولا يُخيِّب مسألته.
وما قيل من أن منكر وجوب الزكاة كافر بالإجماع، وإن تأوَّلَ بكل تأويل فكيف يقال إن هذا الصنف غير كفار، فالجواب أنهم عذروا فيما جرى منهم لقرب العهد بالإسلام الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام، ولوقوع الفترة بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان القوم جهالًا بأمور الدين، قد أضلتهم الشبهة، أما اليوم فقد شاع أمر الدين، واستفاض العلم بوجوب الزكاة، حتى عرفه الخاص والعام، فلا يعذر أحد بتأويله، وكان سبيلها سبيل الصلوات الخمس ونحوها.
وقوله: "إلاَّ بحقه" الضمير فيه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإِسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال مَنْ جحد الزكاة، وقوله: "لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة" يجوز بتشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق مَنْ أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدًا أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصفين، فهو في حق مَنْ جحد حقيقة، وفي حق الآخرين مجاز تغليبًا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال، فجهز إليهم مَنْ دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم.