وصنف ثالث استمروا على الإِسلام، ولكن جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم، كما جاء في حديث الباب. وقال ابن حزم في الملل والنحل: انقسمت العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- على أربعة أقسام، طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإِسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى. والثانية أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طُلَيحة وسِجاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة، وتربصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز ومَنْ معه غلبوا على بلاد الأسود، قتلوه، وقتل مسيلمة باليمامة، وعاد طليحة وسِجاح، ورجع غالب من ارتد إلى الإِسلام، فلم يَحُلِ الحَوْل إلا والجميع قد راجعوا دين الإِسلام.
وقوله: "قال عمرَ: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس؟ " في حديث أنس أتريد "أن تقاتل العرب" وقوله: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم "مَنْ وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم دمه وماله" وأخرجه الطبرانيّ من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر في كتاب الإيمان "حتى يُشْهَد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" ونحوه في حديث أبي العنبس، وفي حديثٍ عند أبي داود "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا".
وفي رواية العَلاء بن عبد الرحمن "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به" وقد مرَّ كثير من مباحث هذا الحديث عند حديث ابن عمر في باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" من كتاب الإيمان. قال الخطّابيّ: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا، وفي آخره أنهم ثبتوا على الإِسلام، إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين، فكيف إستحل قتالهم وسبي ذراريهم؟ وإن كانوا كفارًا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؛ فإنّ في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة.
قال: والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة. وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فزعموا أن دفع الزكاة خاص به -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلي عليهم، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم؟ وإنما أراد عمر بقوله: "تقاتل الناس" الصنفَ الثاني؛ لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عُبّاد الأوثان والنيران واليهود والنصارى.
قال: وكأنَّه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي استحضره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معًا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة، حيث قال فيها: "ويؤمنوا بي