وقد نقل ابن الصباغ في "الشامل" الإِجماع على الجواز، وتبعه الرافعيّ ومن بعده، لكن في زوائد العمرانيّ عن صاحب "الفروع" نقل وجهين، قلت: مذهب مالك فيها المنع، والكراهة، والجواز. وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر، لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور. ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال، ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها، وجواز الاستيجار عليها.
وقوله في الحديث السابق: إنها لهم في الدنيا، أو هي لهم، ليس المراد به إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنيّ بقوله "لهم" أي: هُمُ الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين، وكذا قوله: "ولكم في الآخرة" أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويَمنعه أولئك جزاءًا لهم على معصيتهم باستعماله. ويحتمل أن تكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطاه في الآخرة، كما جاء ذلك في شرب الخمر ولباس الحرير.
وهذا كله في الذي جميعه من ذهب أو فضة، أما المخلوط أو المُضَبَّبُ أو المُمَوَّه، وهو المطلِيّ، ففيه الخلاف، وورد فيه حديث أخرجه الدارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عمر برفعه. "مَن شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيءٌ من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". قال البيهقيّ: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه. قلت: هذا لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وهو عند ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقَة فضة، ولا ضَبَّة فضة. ومن طريق أخرى عنه، أنه كان يكره ذلك. وفي الأوسط للطبرانى عن أم عطية: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء" وأخرج البخاريّ في كتاب "الأشربة" عن عاصم الأحول قال: "رأيت قدح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فَسَلْسَلَهُ بفضة"، ففي هذا الحديث جواز اتخاذ ضَبَّة الفضة، كذلك السلسلة، والحَلْقة، وهذا مما اختلف فيه، كما مرَّ.
قال الخطابيّ: منعه مطلقًا جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول مالك والليث، وعن مالك يجوز من الفضة إن كان يسيرًا، وكرهه الشافعيّ، قال: لئلا يكون شاربًا على فضة، فأخذ بعضهم منه أن الكراهة تختص بما إذا كانت الفضة في موضع الشرب، وبذلك صرّح الحنفية. وقال به أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال ابن المنذر، تبعًا لأبي عُبيد: المعضض ليس هو إناء فضة، والذي تقرر عند الشافعية أنَّ الضبة إنْ كانت من الفضة، وهي كبيرة للزينة، تحرم، وللحاجة فتجوز مطلقًا، وتحرم شبة الذهب مطلقًا، ومنهم من سوّى بين ضبتي الذهب والفضة، وحديث الدارقطنيّ والبيهقي المتقدم عن ابن عمر معلولٌ بجهالة إبراهيم بن عبد الله بن مطيع الراوي عن ابن عمر، واستدل بقوله: "أو إناء فيه شيء من ذلك، الوارد في حديث ابن عمر، على تحريم الإناء من