قال الطحاوي: فهذا ابن عمر قد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما كان رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله. وأجابوا عن هذا بأن في إسناده أبا بكر بن عيّاش قد ساء حفظه في آخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد لاسيّما وهم مثبتون، وهو ناف مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبًا، ففعله تارة وتركه أخرى.
ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. وأجابوا أيضًا بأن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك.
وأجيب عن هذا كلّه: بأنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رواه طاوس وغيره يفعله قبل أن تقوم الحجة عنده بنسخه، ثم قامت الحجة عنده بنسخه فتركه وفعل ما ذكره عنه مجاهد. وهذا الجواب في غاية الحسن والجمع.
ومن دليل النسخ أيضًا ما روي أن عبد الله بن الزبير رأى رجلًا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند رفع رأسه منه، فقال له: لا تفعل. فإن هذا شيء فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تركه. واحتج القائلون بالرفع بما أخرجه الأربعة عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه رفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا ركع ورفع من الركوع.
وهذا يعارضه ما أخرجه الطحاوي وأبو بكر بن أبي شَيبة عن عاصم بن كليب، وإسناده صحيح على شرط مسلم أن عليًا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. ومعلوم بديهة أن عليًا رضي الله تعالى عنه لا يجوزله أن يرى ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يترك هو ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام.
ويدل على هذا ما روي عن ابن عبد البر المنتصر للرفع غاية فإنه قال: من روَى ترك الرفع في الركوع والرفع منه روي عنه فعلُه إلا ابنَ مسعود.
وقد قال بعض الحنفية إنه يُبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة. ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءًا لهذه المفسدة. قال في الفتح: قد قال البخاري في جزء رفع اليدين: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع.
قلت: قوله: لم يثبت عن أحد منهم تركه، معارَض بما روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن الزبير، وعلي -رضي الله تعالى عنهم-. وقوله إن كونه بدعة طعن في الصحابة، يجاب عن هذا بأنه مبني على أن الصحابة الفاعلين له رجَعوا عنه لثبوت النسخ عندهم.
والمباحث هنا كثيرة، وقد أعرضنا عن باقيها اكتفاء بما ذكرنا. وقوله: وكان لا يفعل ذلك في