نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، والثلاثة الأُوَل غير مرادة، أما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصًا وتكديرًا، والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئًا، لأنه مهما خطر لهم أُتوا به.
قلت: يمكن الجواب عن هذا بأن الانتظار واقع في الموقف قبل دخول الجنة لا بعد دخولها، وسياق الكلام دال عليه، والآية الآتية بعدها دالة على ذلك، لأن فيها: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فوقع التصريح بأن هذا قبل دخول أهل النارِ النارَ، وأهل الجنةِ الجنةَ. ثم قال: وأما الثالث فلا يجوز، لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه، ولأنه هو الذي يتعدى بإلى، كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}، وقوله في الرواية المارة: "سترون ربَّكم عيانًا" كالصريح في هذا، أو صريح وإذا ثبت أن ناظرة بمعنى رائية، اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها، لأن الأصل عدم التقدير. وأيد منطوق الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين: {إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، وقيّدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن الرؤية تحصل للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا.
وهذا صريح حديث أبي امامة عند مسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". وقد أخرج أبو العباس السرّاج، شيخ شيخ البخاري في تاريخه، عن مالك، وقيل قيل له: يا أبا عبد الله، قول الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، يقول قوم: إلى ثوابه، قال: كذبوا، فأين هم من قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}. ومن حيث النظر إن كل موجود يصح أن يرى، وهذا على سبيل التنزل، وإلا فصفات الله تعالى لا تقاس على صفات المخلوقين، وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع من ذلك في الدنيا، إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وما ذكروه من الفرق بين الدنيا والآخرة، من أن أبصار أهل الدنيا فانية، وأبصارهم في الآخرة باقية جيد. ولكن لا يمنع تخصيص ذلك بمن ثبت وقوعه له.