الدارَقُطنيّ والبيهقيّ في سننيهما، عن جابر عن الشعبيّ مرفوعًا "لا يُؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا" واعترضه الشافعي فقال: قد علم من احتج به أن لا حجة فيه، لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، يعني جابر الجعفيّ. قلت: الجواب عن هذا هو أن مالكًا يحتج بالمراسيل، وجابر وثقه كثير من العلماء، بل من وثقه أكثر ممن جرحه. وحكى عياض عن بعض مشائخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس، لمّا صلوا خلفه قيامًا، ويتقوى ذلك بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم.
قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنّ مواظبتهم على ترك ذلك تدل على صحة الحديث المذكور، واحتج أيضًا بأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما صلى بهم قاعدًا لأنه لا يصح التقدم بين يديه، نهى الله عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحد شافعًا له، ورُدّ هذا بصلاته عليه الصلاة والسلام خلف عبد الرحمن بن عوف الثابت بلا خلاف. قلت: والجواب عن هذا أنه وقع من غير دخول عليه، أي من غير أن نقدمه إلى الإمامة، بل وجده إمامًا وصلّى به، فهي واقعة عين لا توجب الاطراد، ويدل على أنها واقعة عين ما في الحديث الصحيح من امتناع أبي بكر رضي الله تعالى عنه من الصلاة به عليه الصلاة والسلام، وقوله: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. واستدلوا أيضًا بقول ربيعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر.
وأنكر أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أمَّ في مرض موته قاعدًا، كما حكاه عنه الشافعيّ في الأم، ويأتي ذلك في الحديث. وقال ابن العربيّ مؤيدًا لمذهبه: سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتبرك به، وعدم العوض عنه، يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره. وأيضًا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره.
وأجاب القائلون بأن العاجز عن القيام لا يُصلي القادر عليه خلفَه إلَّا قائمًا عن قوله في حديث الزهريّ عن أنس "فإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"