مالك: إنما لم يُرَ سبحانه في الدنيا، لأنه باقٍ، والباقي لا يُرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة، ورزقوا أبصارًا باقية، رأوا الباقي بالباقي.
قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلَّا من حيث القدرة، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها، لم تمتنع، ووقع عند مسلم عن أبي أمامة، رفعه، ما يؤيد هذه التفرقة "اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وأخرجه ابن خُزيمة من حديث ابن أبي أُمامة وعبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلًا، فقد امتنعت سمعًا، لكن من أثبتها للنبي عليه الصلاة والسلام، له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، وله أن يقول أيضًا: إن رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه تعالى في العالم العلويّ، ليست من الرؤية الدنيوية.
ويمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا به على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره. والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
وأما ابن مسعود فقد أخرج البخاريّ عنه في قوله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال: إنه رأى جبريل له ست مئة جناح، وزاد عاصم في هذا الحديث كما أخرجه النسائي وابن مردويه "يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت". والتهاويل الألوان المختلفة وزينة التصاوير والنقوش والحلي. والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى، أي جبريل إلى عبده، أي عبد الله محمد، لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى جبريلُ، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد، وكلام