وروى البخاري أيضًا أن عبيد بن عُمير سأل عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن الهِجْرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يَفِرُّ أحدُهم بدينه إلى اللهِ ورسولهِ مَخَافَةَ أن يُفْتَنَ عليه، فأما اليوم، فقد أظهرَ الله الإِسلام، والمؤمن يعبُدُ ربَّه حيثُ شاءَ، ولكن جهادٌ ونيةٌ.
وروى البخاري ومسلم عن مُجاشِع بن مسعود، قال: انطلقت بأبي مَعْبد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه على الهجرة، قال: انقضت الهِجْرة لأهلها، فبايَعَهُ على الإِسلام والجهادِ.
وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخُدري، ورافع بن خديج، وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم: "لا هِجْرَةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية".
وروى أحمد أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جاء رجل أعرابي، فقال: يا رسول الله! أين الهِجرة؟ إليك حيث كنت؟ أم إلى أرض؟ أم لقوم خاصة؟ أم إذا مت انقطعت؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة، ثم قال: "أين السائل عن الهجرة؟ " قال: ها أنا يا رسول الله، قال: "إذا أَقَمْتَ الصلاة، وأتيت الزكاة فأنت مهاجرٌ وإن مُتَّ بالحَضرمَةِ" قال: يعني أرضًا باليمامة. وفي رواية له: "الهجرة أن تهجُرَ الفواحش ما ظهر منها وما بَطَنَ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنتَ مهاجرٌ وإن مت بالحضرمةِ".
فهذه الأحاديث متعارضة، والتوفيق بينها هو أن الهجرة قبل فتح مكة إلى المدينة المنورة كانت شرطًا في الإِسلام، لا يصِحُّ إيمان إلا بها، وبعد فتح مكة انقطعت تلك الهجرة، وبقيت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، أو من بلد المعاصي إلى غيره واجبة لا تنقطع، قاله الوانْشَريْسيّ في "معياره" و"لباب التأويل"، وذكره في الفتح غير مصرح بأن الأولى كانت شرطًا في الإِسلام، وكون الأولى شرطًا في الإِسلام مروي عن السُّدِّيّ، قال ابن عَطِيّة: والذي يجري مع الأصول أن من مات بمكة مؤمنًا