إنما هو عاص بترك الهجرة، ومأواه جهنم على جهة العِصيان دون الخلود، ومن مات فيها مرتدًّا، فهو كافر، ومأواه جهنم على جهة الخلود، ووفق الخَطّابِيّ بين الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإِسلام فرضًا، ثم صارت بعد فتح مكة مندوبًا إليها غير مفروضة، قال: فالمنقطعة منها هي الفرض، والباقية منها هي الندب.

قلت: ظاهر كلامه تخصيص التفرقة بالهجرة إلى المدينة خاصة، فقبل فتح مكة فرض إليها، وبعده مندبة إليها، والذي يَظْهَر أن المراد عنده في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتعرض للهجرة إلى غيرها من بلاد الكفر، أو المعاصي. وما فسرت به كلامه يدل عليه ما قاله ابن الأثير، فإنه قال الهجرة هجرتان، إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة، كان الرجل يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم، ويدع أهله وماله، لا يرجِعُ في شيء منه، فلما فُتِحَت مكة انقطعت هذه الهجرة، والثانية من هاجر من الأعراب غزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة، وهو المراد بقوله: "لا تنقطع الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبة" فكلامه هذا موافق في المعنى لكلام الخَطّابِيّ.

وقال في "الفتح": قال الخَطّابيّ وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإِسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهادِ والنية على من قام به أو نزل به عدو.

قال ابن حَجَر: وكانت الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على من أسلم لِيَسْلَمَ من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذِّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} الخ [النساء: 97]، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجَر، ومن لم يهاجِر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015