والأخيرة فيهما مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنية، كأنه أشار بذلك إلى أن النية تَتَنَوَّعُ كما تَتَنَوَّعُ الأفعال، كمن قَصَدَ بعمله وجه الله تعالى، أو تحصيل موعوده، أو الاتّقاء لوعيده، وفي معظم الروايات النية بالإِفراد على الأصل، لأنّ المصدر لا يجمع إلا باعتبار تنوعه، وإفرادها لاتِّحاد محلها، وهو القلب، كما أن مرجعها واحدٌ، وهو الإِخلاصُ، لا يجمع للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها.
والنيات جمع نِيَّة بكسر النون، وتشديد التحتانية، وحُكي تخفيفها، من نَوَى يَنْوي، من باب ضرب، وهي لغةً القصد، وقيل: هي النَّوَى، بمعنى البعد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه.
وشرعا قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عَزْما، أو يقال: قصدًا لفعل ابتغاء وجه الله وامتثالا لأمره، وهي هنا محمولة على المعنى اللغوي ليطابق ما بعده من التقسيم.
وقال البيْضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مآلًا، والشرع خصصه بالإِراده المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه.
ومعنى الجملة تركيبًا أن الأعمال البدنية ... الخ لا تكون صحيحة أو مجزئة إلا بالنيات، فالباء متعلق بمقدور وهو: صحيحةٌ أو مجزئةٌ؛ كما قدرنا؛ وقَدَّرَهُ الحَنَفِيَّةُ: كاملةً، والأول أولى؛ لأنّ الصحيحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال؛ فالحمل عليها أولى، لأنّ ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ؛ وتقديرهم بكامله يوهم أنهم لا يشترطون النية في العبادات كلها، وليس كذلك، فإنهم لا يشترطونها في الوسائل خاصة. وأما المقاصد فلا خلاف في اشتراط النية فيها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها في الوضوء، وخالف الأوْزَاعِيُّ في اشتراطها