كان بشر يقول: من فقر جاع، ومن تغافل شبع، وعند العلماء: إنّ من طلب الدنيا حلالاً فهو أزهد فيها ممن أكل الشبهات من غير طلب، وفي الخبر: من لم يبال من أين مطعمه لم يبالِ الله تعالى من أي أبواب النار أدخله، وقيل: ذلك في التوراة مكتوب.
ذكر تفصيل الحلال من الشبهة والأصل في ذلك حديث النعمان بن بشير الحلال بيِّن والحرام بيِّن والشبهات بين ذلك لا يعلمها كثير من الناس، من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وإنّ لكل مالك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه، يقال: إنّ هذا الحديث ثلث العلم، فالحلال ما ظهر وتبين وكنت على يقين منه واطمأن به قلب المؤمن العالم، والحرام أيضاً ما تبين وانكشف على يقين منه ولم يختلف أحد من المسلمين فيه، ونفر قلب المؤمن واشمأز منه وقد تطمئن بعض القلوب إلى شيء لقلة ورعها، وقد تنفر بعض القلوب من شيء لقصور علمها وليس يقع بمثل هذين القلبين اعتبار، وإنما الاعتبار بقلب المعيار الذي قد جعل كالمحك يختبر به معادن الملكوت وهو قلب المؤمن الموقن العالم، وهذا القلب في القلوب أعزّ من الذهب إلابريز في سائر المعادن.
وقد روينا عن بعض السلف عن تفسير قوله تعالى: (وَكَذلكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّاِلمينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأنعام: 129، قال: إذا فسدت أعمال الناس جعل عليهم ولاة يشبهون أعمالهم، وقال بعض العلماء في معناه: إذا فسدت أديان الناس فسدت أرزاقهم والشبهات على وجوه، أحدها ما أشبه الحلال من وجه وما اختلط أيضاً بها فاختلط ولم يتميز منهما، والشبهة أيضاً ما دل باطن العلم على تحليله فهو حلال الحكم وأظهر باطن الورع الوقوف عنه، والشبهة ما أباحه علم الظاهر وكرهه علماء الباطن لحبك القلوب وحوازها ولعدم الطمأنينة ومواجيد القلوب، كنحو ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على ما أسمع منه وهو يعلم خلافه، فمن قضيت له على أخيه فإن أقطع له قطعة من النار، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يحكم بظاهر الأمر وردهم إلى حقيقة علم العبد بما شهد وعرف من عيب نفسه المستتر عن الأبصار، والشبهة أيضاً ما اختلف فيه لخفاء أدلته ولتكافؤها بالسوية وما لم تره عينك فتقع على