الغداء يا بن بنت رسول الله، فيثني رجله عن بغلته وينزل، فيقعد معهم على الأرض ويأكل، ثم يركب ويقول: إنْ الله تبارك وتعالى لا يحب المستكبرين ثم يدعوهم بعد ذلك إلى منزله فيقول للخادم: هلمي ما كنت تدخرين فيأكلون معه، وروينا في الإسرائيليات أنْ حكيماً من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصنفاً في الحكمة، حتى ظن أنه نال منزلة عند الله تعالى، فأوحى الله إلى نبيه: قل لفلان أنك قد ملأت الأرض نفاقاً، وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً، قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: قد بلغت محبة ربي فأوحى الله عزّ وجلّ إلى النبي، قل له إنك لم تبلغ رضاي قال: فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم، وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم، فأوحى الله تبارك وتعالى الآن حين بلغت رضاي، فلو أيقن اليائس المتصنع للخلق، الأسير في أيديهم، الرهين لنظرهم، أنّ الخلق لا ينقصون من رزق، ولا يزيدون في عمر، ولا يرفعون عند الله، ولا يضعون لديه، وأنّ هذا كله بيد الله عزّ وجلّ، لا يملكه سواه، ولو سمع خطاب المولى لاستراح من جهد البلاء، إذ يقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله) الأعراف: 194، لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، مع قوله تعالى: (إنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون الله عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ) الأعراف: 194 فلو عقل ذلك لطرح، الخلق عن قلبه اشتغالاً بمقلبه، ولأعرض عن الناس بهمه نظراً منه إلى مهمه، وأظهر حاله وكشف أمره تقوياً بربه وغنية بعلمه، فلم يبال أنْ يراه الناس على كل حال يراه فيه مولاه، إذا كان لا يعبد إلاّ إياه ولا يضره ولا ينفعه سواه، فعمل ما يصلحه وإنْ كان عند الناس يضعه، وسعى فيما يحتاج إليه وإنْ كان عند المولى يزري عليه، ولكن ضعف يقينه فقوى إلى الخلق نظره، وأحب أنْ يستر عنهم خبره لإثبات المنزلة عندهم، ولاستخراج الجاه لنفسه، فيفخر بالخيلاء والعجب، فموه بحال على من لا حال له، ووهم بمقام عند من ليس له مقام، واعتقدوا فضله بذلك لنقصهم، وتوهموا به علمه لجهلهم، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم، حدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: والله ما أقول لك إلاّ نصحاً، أنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما يصلحك فافعله، وحدثونا عن الثوري قال: رضا الناس غاية لا تدرك، فأحمق الناس من طلب من لا يدرك وقد قال بعض الحكماء في معناه قولاً منظوماً:

من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذّة الجسور

ونظر أبو محمد سهل إلى رجل من الفقراء فقال له: اعمل كذا وكذا فقال: يا أستاذ لا أقدر على هذا لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه فقال: لا ينال العبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين: عبد يسقط الناس عن عينه فلا يرى في الدار إلاّ هو وخالقه، وأنّ أحد لا يقدر أنْ يضره ولاينفعه، أو عبد أسقط الناس عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015