فيدرك بذلك فضائل المؤاخاة وينال به منازل المحبين عند الله تعالى، ومن أشد الناس وحشة في الدنيا من لم يكن له خليل يأنس به وصديق صدق يسكن إليه، كما قال عليّ عليه السلام: وغريب من لم يكن له حبيب ولا يوحشنك من صديق سوء ظن، وأنشد بعض الشيوخ لبعضهم:

وليس غريبًا من تناءت دياره ... ولكن من يجفي فذاك غريب

ومن كان ذا عهد قديم وذا وفا ... فلو جاوز السدين فهو قريب

وقيل لسفيان الثوري: بمن تأنس فقال: بقيس بن الربيع، وما رأيته منذ سنتين، وكان بعضهم يقول: أنا بمودة من غاب عني من بعض إخواني أوثق مني بمودة من يغدو علي ويروح في كل يوم مرتين، وقال محمد بن داود: قرب القلوب على بعد المزار خير من قرب الديار من الديار، وليتّقِ أنْ يعاشر أخاه بخمس خصال، فليست من الأدب ولا المروءة: أولها أنْ لا يلزمه بما يكره مما يشق عليه، والثانية أن لا يسمع فيه بلاغة ولا يصدق عليه مقالة، والثالثة أن لا يكثر مسألته من أين تجيء وإلى أين تذهب، وأنْ لا يتجسس عليه ولا يتحسس عنه، والفرق بينهما أنّ التجسس يكون في قفو الآثار، والتحسس يكون في تطلع الأخبار، فقد روينا كراهة هذه الخمس في سيرة السلف، وقال محمد بن سيرين: لا تلزم أخاك بما يشق عليه، وقال مجاهد إذا رأيت أخاك في طريق فلا تسأله من أين جئت ولا أين تذهب فلعله أنْ يصدقك في ذلك أو يكذبك، فتكون قد حملته على الكذب، وروينا أنّ حكيماً جاء إلى حكيم فقال: جئتك خاطباً إليك مودتك فقال: إنْ جعلت مهرهاً ثلاثاً فعلت قال: وما هن قال: لا تخالفني في أمر، ولا تقبل عليّ بلاغة، ولا تعطين فيّ رشوة فقال: قد فعلت قال: قد آخيتك، وأما التجسس والتحسس فقد نهى الله ورسوله عنهما، وجعلهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرط الأخوة مع ترك التدابر والتقاطع، فقد روينا في الخبر السائر: لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المقاطعة في الشهادة أن تقطع مواصلته، وتنحرف عن جريان عادته، والتدابر في الغيب مأخوذ منه إذا ولاك الدبر أي لا تدابره إلاّ بما يحب، كما تكون له في المقابلة كما أخذت الغيبة من الغيب أي لا تخلفه في غيبه بما يكره، وقد كان الإخوان يتبايتون على العلوم والأعمال، وعلى التلاوة والأذكار وبهذه المعاني تحسن الصحبة، وتحق المحبة، وكانوا يجدون من المزيد من ذلك والنفع به في العاجل والآجل، ما لا يجدونه في التخلي والانفراد من تحسين الأخلاق، وتلقيح العقول، ومذاكرة العلوم، وهذا لا يصح إلاّ لأهله، وهم أهل سلامة الصدور والرضا بالميسور مع وجود الرحمة، وفقد الحسد، ووجد التناصر، وعدم التظاهر، وسقوط التكلف، ودوام التآلف، فإذا عدمت هذه الخصال ففي وجود أضدادها تقل المباينة، وقد قيل: من سقطت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015