مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرأت من نظري إليه
وما شك أهل مصر أنّ الشافعي يفوض أمر حلقته إليه، وأنه يستخلفه بعد موته ويأمر الناس بالحضور عنده، حتى سئل عن ذلك في علّته فقيل له: يا أبا عبد الله إلى من نجلس بعدك، ومن يكون صاحب الحلقة، وهم يظنون أنه يشير إلى محمد فاستشرف لذلك محمد وتطاول لها، وكان جالساً عند رأسه فقال: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد ووجد في نفسه ومال أصحابه إلى أبي يعقوب البويطي، وقد كان محمد حمل علم الشافعي ومذهبه وفارق مذهب مالك، إلا أنّ البويطي كان أزهد وأورع، فحمل الشافعي نصحه للدين والنصيحة للمسلمين، ولم يداهن في ذلك بأن وجه الأمر إلى أبي يعقوب، وآثره لأنه كان أولى، فلما قبض الشافعي رضي الله عنه إنتقل محمد ابن عبد الحكم مذهبه، وفارق أصحابه ورجع إلى مالك، وروى كتب أبيه عن مالك، وتفقه فيها، فهو اليوم من كبار أصحاب مالك رضى الله عنه، وأخمل البويطي رحمه الله نفسه واعتزل عن الناس بالبويطة من سواد مصر، وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع ابن سليمان ويعرف به، وإنما هو جمع البويطي لم يذكر نفسه فيه، وأخرجه إلى الربيع فزاد فيه، وأظهره وسمعه منه وقد كان البويطي حمل في المحلة ورفع من مصر إلى السلطان، وحبس في شأن القرآن، فحدثنا عن الربيع قال: كتب إليّ البويطي من السجن يحثني على المجالس، ويأمرني بالمواظبة على العلم والرفق بالمتعلمين والإقبال عليهم، وأنْ أتواضع لهم وقال: كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يقول:
أهين لهم نفس لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا تصحب من الناس إلاّ من إنْ افترقت قرب منك، وإذا استغنيت لم يطمع فيك، وإنْ علت مرتبته لم يرتفع عليك، إنْ تذللت له صانك، وإنْ احتجت له مانك، وإنْ اجتمعت معه زانك، فإن لم تجد هذا فلا تصحبن أحداً، ومن حق الأخوّة في الله عزّ وجلّ ما نقل إلينا من سيرة السلف قال: كان الرجل يجيء إلى منزل أخيه من حيث لا يعلم، فيقول لأهله: هل عندكم دقيق، ألكم زيت تحتاجون إلى كذا، فإن قالوا ليس عندنا اشترى لهم مصالحهم، قال: ولم يكن الأخ يفرق بين عياله وعيال أخيه، يقاسمهم المؤونة قال: ويلقى أخاه فلا يعلمه بشيء من ذلك، وأما سعيد بن أبي عروبة، فكان يعلق كل ثوب عنده على الحبل، ويظهر كل صنف من طعام فيصفه، وربما اشترى المسلوخ فيعلقه، ويفتح بابه ويدخل عليه إخوانه في الله عزّ وجلّ، فكان من أراد طعاماً أكل، ومن اشتهى لحماً قطع وشوى أو طبخ، ومن احتاج