هذا الأخ أنْ يؤثر أخاه بما آثره به، ولا يقتضيه حق إخائه، فحسن، قد فعل ذلك عبد الرحمن بن عوف لما آثره سعد بن الربيع بالمال والنفس، فقال: بارك الله لك فيهما، فآثره بما به آثره، فكأنه أستأنف هبته له لأنه قد كان ملكه إياه لسخاوة نفسه، وحقيقة زهده، وصدق مودته، فكانت المساواة لسعد، والإيثار لعبد الرحمن، فزاد عليه، وهذا من فضل المهاجرين على الأنصار إذ كانت المساواة دون الإيثار، وقد كان مضر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحبّ رجلاً ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه، وكان أبو سليمان الداراني يقول: هو صادق في حبه مفرط في حقّه، ثم قال: لو أنّ الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له، وقال: إني لألقم الأخ من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي، وأعلم أنّ إطعام الطعام والإنفاق على الإخوان مضاعف على الصدقات وعلى العطاء للأجانب، بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات.
وروي عن عليّ عليه السلام: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله عزّ وجلّ أحّب إلي من أنْ أتصدق بمائة درهم على المساكين، وقال أيضاً: لأن أصنع من طعام وأجمع عليه إخواني في الله عزّ وجلّ أحبّ إلى من أنْ أعتق رقبة، وأوصى بعض الحكماء ابنه فقال: يا بني ادخل بين الأعداء ولا تدخلن بين الأصدقاء، قال: وكيف ذلك قال: الدخول بين الأعداء يكسب الصداقة والدخول بين الأصدقاء يورث العداوة، ولا ينبغي للأخ أنْ يخون أخاه في غيبه بما يكره إنْ كان ذلك في شيء مباح إذا كرهه، ولا ينكر عليه ما لا يقوم في علمه إذا فعله إنْ كان أخوه أعلم منه، أو كان له وجه يخرج عليه، ولا ينبغي أنْ يكذبه في أمره ولا يفشين له سرّاً، ولا يعرضنه لغيبة ولا نميمة، ولا يحوجه إلى مداراة، ولا يلجأ إلى اعتذار، ولا يتكلفن له ما يشق عليه أو ما لا يحبه هو منه، وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقدمك على الأشياخ ويقربك دونهم فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سرّاً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذبة، وفي بعض الروايات: ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، قال: فقلت للشعبي وقد رواه: كل كلمة خير من ألف قال: كل كلمة خير من عشرة آلاف، وأفشى بعضهم إلى أخيه سرًّا ثم قال له: حفظت قال: بل نسيت وقيل لبعض الأدباء كيف حفظك السرّ قال: أنا قبره وقيل لآخر كيف تحفظ السرّ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، ومن أحسن ما سمعت في حفظ السر ما حدثني بعض أشياخنا عن إخوان له، دخلوا على عبد الله بن المعتز فاستنشدوه شيئاً من شعره في حفظ السرّ، فأنشدهم على البديهة:
ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأود عته صدري فصار له قبرا
قال فخرجنا من عنده، فاستقبلنا محمد بن داود الأصبهاني فسألنا من أين جئنا