عن عوض، إذا ذهب العوض زالت المحبة، وصحة الحب في الله عزّ وجلّ والبغض فيه لا ينقلب لسبب حب جعل في الطبع لمنافع الدنيا، ولا لأجل بغض في النفس لمضارها، وحقيقة الحب في الله عزّ وجلّ أنْ لا يحسده عى دين ولا دنيا، كما لا يحسد نفسه عليهما، وأن يؤثره بالدين والدنيا إذا كان محتاجاً إليهما كنفسه، وهذا شرطا الحب في الله عزّ وجلّ اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ) الحشر: 9، ثم وصف محبتهم، إذ كان يصف حقًّا ويمدح محقًّا، فقال: (ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاَجةً مِمّا أُوتُوا) الحشر: 9، يعين: من دين ودنيا، والحاجة في هذا الموضع: الحسد، أي كما لا يجدون في صدورهم حاجة لأنفسهم حسداً، ثم قال عزّ وجلّ في الشرط الثاني: (وَيُؤثِرُون على أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر: 9، فهذا فصل الخطاب، وجملة نعت الأحباب، فينبغي أنْ يؤثر أخاه بنفسه وماله إنْ إحتاج إلى ذلك، فإن لم يكن في هذه المنزلة وهو مقام الصدّيقين فيساويه في حاله، وهذا من مقام الصادقين، وهذا أقل منازل الأخوة، وهو من أخلاق المؤمنين، وإنما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبين الغني والفقير ليساوي الغني الفقير فيعتدلان، وينبغي أنْ يقدمه على أهله وولده، وأنْ يحبه فوق محبتهم لأن محبة أولئك من الدنيا والنفس والهوى، ومحبة الإخوان من الآخرة ولله تبارك وتعالى، وفي الدين وأمور الدين والآخرة مقدم عند المتّقين، وكان عبد الله بن الحسن البصري يصرف إخوان الحسن إذا جاؤوه، لطول لبثهم عنده ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملّوا الشيخ، فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع، فإنهم أحب إلي منكم، فؤلاء يحبوني لله عزّ وجلّ وأنتم تريدوني للدنيا، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل: وكيف ذاك قال كلهم يرى الفضل لي عليه، ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه، وكان الأعمش يقول: من أخفى عنا بدعته لم يخف عنا ألفته، أي ينظر إلى إخوانه الذين يألفهم، فيستدل عليه بهم، وقد روى الأصمعي عن مجاهد عن الشعبي قال: قال عليّ بن أبي طالب: كرم الله وجهه لرجل وكره له صحبة رجل رهق فقال شعراً:
لا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هوّ ما شاه
وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وأنشد محمد بن جامع الفقيه شعراً: