وكذلك قال بعض الأدباء: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، وكذلك كان السلف فيما ذكره الحسن وغيره، قالوا: كان أحدهم يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة، لا يفقدون إلاّ وجهه، ويقال إنّ مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهولا يعلم، وذهب خيثمة فقضي دين مسروق سرّاً وهو لا يعلم، فمن حقيقة المؤاخاة في الله عزّ وجلّ إخلاص المودة له بالغيب، والشهادة واستواء القلب مع اللسان، واعتدال السرّ مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة، وإنْ اختلف ذلك ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ووليجة في طريق المؤمنين، ولا يكون ذلك مع حقيقة الإيمان، وقد سأل أبو رزين العقيلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشرط له أشياء منها: أنْ يحب غير ذي نسب لا يحبه إلاّ لله عزّ وجلّ، ومن شرط المحبة في الله تعالى أنْ لا يكون لرحم يصلها أو لنعمة يربها، كما جاء في الأثر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ رجلاً زار أخاً في الله تعالى في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فقال: أين تريد، قال: أردت أخاً لي في هذه القرية، قال: هل بينك وبينه رحم تصلها أو له عليك نعمة تربها، قال: لا، إلاّ أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك، إنّ الله تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن ابنه عبد الله رضي اللهّ عنهما: لو أن رجلاً صام النهار لا يفطر، وقام الليل وجاهد، ولم يحب في الله عزّ وجلّ ويبغض في الله ما نفعه ذلك شيئاً، وقد روينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأنه قال لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الصلاة، قال: حسنة وليس به، قالوا: الحج والجهاد، قال حسنة وليس به، قالوا: فأخبرنا يا رسول الله، قال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله تعالى، والبغض فيه، وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ بحب أخاه في الله عزّ وجلّ، ثم ينقلب الآخر عمّا كان عليه ويتغير، هل يبغضه بعد ذلك أم لا؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عمّا كان عليه وتغير، فأبغضه من حيث أحببته، وروينا عن أبي الدرداء أنّ شاباً غلب على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأنّ الشاب وقع في كبيرة من الكبائر، فجاؤوا إلى أبي الدرداء فحدثوه، وقالوا له: لو أبعدته، قال: سبحان الله لا نترك صاحبنا لشيء من الأشياء، وروينا عن بعض التابعين وعن الصحابة في مثل ذلك، وقد قيل له فيه، فقال: إنما أبغض عمله وإلاّ فهو أخي، وكذلك قال الله عزّ وجلّ لنبيّه في عشيرته: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة كلحمة النسب، وقيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك: