وقد كان بشر يقول: مثل الغني المتعبّد مثل روضة على مزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد جوهر في جيد الحسناء، وقال: العبادة لا تليق بالأغنياء، وكان يقول: التقوى لا تحسن إلاّ في فقر، وقال له رجل فقير: يا أبا نصر ادع الله عزّ وجلّ لي فقد أضرّ بي الفقر والعيال، فقال له بشر: إذا قال لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله تبارك وتعالى أنت في ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي، وقال بعض السلف: أي أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ أنْ يقبلوا هذا العلم وكرهوا أن يسمعوه من الأغنياء وزعموا أنه لا يليق بهم، وقد كان بعض الفقراء يقول: هذا العلم يعني علم المعرفة عوضه الله سبحانه وتعالى الفقراء بدلاً من الدنيا لا يظهره إلا هم ولا يوجد إلاّ عندهم، روحهم الله عزّ وجلّ به في الدنيا وجعله عوضاً لهم مما تركوه له اليوم، فإذا كان غداً فهم الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين وهو المزيد، وقد روينا في تفسير قوله تعالى: (وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) الرعد: 23 قال: الفقر في الدنيا.
فمن فرائض الفقر عند الفقراء: الصبر عليه بترك المسألة قبل ورود الفاقة، وقطع الهمّ عن التشرّف إلى الخلق، وأن لا يتناول عند الحاجة ما حظره عليه العلم، ولا يجاوز حدّاً من حدود الأحكام، وإن سأل عند حاجة لم يستكثر ولم يدّخر، فإن أعطى فوق كفايته فاقتناه ليكف عن المسألة فلا بأس به، ويتوخّى في مسألته المتّقين: ومن يعلم أنه يتحرّى في مكسبه فإن مسألته عمل له يلزمه التورع فيها، كما يلزمه الورع في مكسبه، ولا يسأل من يعلم أنه لا يبالي من أين يأكل، ومن لا يردع عن الحرام في مكسبه والعبد بنفس الحاجة والجوع يستحق على إخوانه شبعة يقيم بها صلبه ويسكن بها نفسه، وبنفس العري والعدم يستحق عليهم ثوباً يواري به عورته، وذلك لازم للمسلمين وواجب له، فإن قام به بعضهم سقط عن بعض وجوبه، وإن سأل ذلك فلا شيء عليه، ويقال إنّ كفّارة المسألة صدق السائل في مسألته وصدقه أن لا يسأل إلاّ بعد فاقته ومع خوف التقصير في أداء فرائضه من اختلاف عقله وتشتّت قلبه، وأن يكفّ مع أول الكفاية، ولا يدخر بعد الشبع ليستكثر، ولا يجعل المسألة إن دفع إليها له عادة وكداً ولا حرفة، ومهما استغنى عن السؤال فليكن ذلك أحبّ إليه، فإنه أفضل له، وقد سأل ثلاثة من الأنبياء عند فاقتهم سليمان عليه السلام لما سلب ملكه أربعين يوماً، وموسى والخضر عليهما السلام لما استطعما أهل القرية.
وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للسائل حقّ وإن جاء على فرس، وفي الحديث: ردوا السائل ولو بظلف محرق، فلو كانت المسألة إثماً وعدواناً لم يحثّ على الإعطاء فيكون معاوناً على الإثم والاعتداء، ولكن ذلك من البرّ والتقوى، لأنه سبب منه ودالّ عليه، فعاون بالأمر به لحرمة الإسلام، ولأن المواساة من المعروف والإحسان، وسمع عمر